14 نوفمبر 2024
لم يعد من الموت ليخبرنا الحقيقة
تسع سنوات مرت يوم أمس (9 أغسطس/ آب 2017)، على ذهاب الشاعر محمود درويش إلى موته، المشتهى بشجاعة العارفين ويقين المؤمنين وتردّد الشعراء وإقدام العشاق ولامبالاة من لا ينتظر سوى القصيدة.
ذهب درويش، بعد تجربتين ناقصتين في غرف عمليات القلب المفتوح، إلى كمال التجربة الثالثة أخيراً، ولم يعد على الرغم من هذا الغياب الطويل، ليخبرنا الحقيقة، تماماً كما كان ينتظر في جداريته الشعرية الشهيرة التي أكمل بناءها، ووضعها شاهداً على قبرٍ لم يحفر بعد.
ذهب الشاعر، إذن، جسداً في تراب القبر، وبقيت قصيدته الموزّعة في أسئلة الموت الكبير مفتوحةً على جرح الحياة، كما فهمها بيتاً بعد بيت، وقصيدة بعد قصيدة، وكما كتبها في كل ما كتب من كتبٍ، تناوش الشعر ولا تبلغه، لكنها تسير على حافة الحياة دائماً.
ماذا لو كان درويش بيننا الآن؟ في كل حدث كبير، وفقاً لمقاييسي الخاصة جداً، أستدعي موتاي من الشعراء على عجلةٍ من أمري، ليشاركوني في الرؤية اتفاقاً واختلافاً معي، كالعادة، وكما يليق بذكراهم في حضوري اليومي. يجيء بعضهم ولا يجيء آخرون. وفي كل استدعاء أشهدهم على الحدث الكبير الذي قد لا يكون كذلك بالنسبة لأي منهم، لأنتظر إجاباتٍ مشتهاة، أعرف أنها لن تأتي، لأن الموتى لا يعودون أبداً ليخبرونا الحقيقة، لا كما كتبوها في قصائدهم، ولا كما انتظروها غيباً مفتوحاً إلى الأبد، بل يعودون فقط ليكونوا جزءاً من حفاوة الذاكرة بتاريخها المثقل.
ولأن محمود درويش الذي حلّق بموته نحو سماوات الشعر، عبر سيرة شعرية مكتملة ما بين الموت والحياة قبل رحيله الأخير بتسع سنوات، بقي الأقرب إلى كل أحداثي الكبيرة في العالم، فقد كان هو الأكثر استجابةً لكل دعوة من غياب الموت. فماذا لو عاد الآن تحديداً؟ ماذا لو قدّر له أن يبحث عن سلته المهملة، ليجدها مليئة بمفاجآت التاريخ اليوم؟ أو أنه لم يذهب أساساً قبل تسع سنوات، وبقي حاملاً جرحه في قاع قلبه، بعيداً عن غرف العمليات، ومشارط الأطباء في مستشفى هيوستن الأميركي، حيث أسلم بقايا الروح لفضاء الغربة البارد؟
مثلاً.. ماذا كان سيكتب عن ثورات مبتسرة في ربيع العرب المتأخر، عبرت أيامنا كحلم سريع البهجة وبطيء الأسى؟ كيف كان يمكنه أن يصرف نظر شعريته من بؤرته المركزية في فلسطين، ليشظيها على عواصم العرب ومدنه الغارقة في محنة الوجود؟ على أي وجهةٍ من وجهات البوصلة الحائرة سيضع رأسه، ليكمل أغنيته المنبعثة من أنين الكمنجات وحنين العود الحزين؟ وفي أي المحطات سينتظر حصانه الذي تركه وحيداً ذات يأس، ولم يعرف كيف يعود إليه؟ ماذا كان سيكتب عن الموت الموزّع على أرصفة اللجوء وشواطئ الغربة فائضاً من معنى الأوطان الصغيرة، ليصنع معناه الجديد في الوطن الكبير؟
هل سيرسم خرائط جديدة ما بين الشعر والنثر لمدن أخرى، تهاوت سريعاً تحت وطأة التآمر المحلي والعربي والعالمي؟ أم سيراجع خرائط المدن القديمة، بعد أن هبت عليها رياح التغيير لتضعها على هوامش الاهتمام؟ هل سيبقى على حيرته المتأرجحة في معنى التطبيع ما بين الفلسطيني وغير الفلسطيني؟ أم سيحسم أمره، وهو يرى قوافل المطبعين تترى تحت شعارات الزيف؟ هل ستأخذه غواية وسائل التواصل الاجتماعي الجديد، لينكشف في ما اجتهد بإبعاده عن عيون المتربصين، كما انكشف كثيرون؟ أم سيستسلم لمشاع المشاعر ومجانيتها في تلك الوسائل، فيلون القصائد كما يناسب هواة جمع المتابعين؟ هل سيفهم أن العالم قد أصيب بجنون غير مسبوق خلال تلك السنوات التسع، بما يقنعه أن موته المشتهى هو الملاذ الوحيد للجميع؟ أم أنه سيشرب من نهر الجنون ليبقى حياً في عالم يموت؟
عموماً.. ما زال مفتاح الجدارية معلقاً فوق رأسي: لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة، ولن يعود درويش أيضاً.
ذهب درويش، بعد تجربتين ناقصتين في غرف عمليات القلب المفتوح، إلى كمال التجربة الثالثة أخيراً، ولم يعد على الرغم من هذا الغياب الطويل، ليخبرنا الحقيقة، تماماً كما كان ينتظر في جداريته الشعرية الشهيرة التي أكمل بناءها، ووضعها شاهداً على قبرٍ لم يحفر بعد.
ذهب الشاعر، إذن، جسداً في تراب القبر، وبقيت قصيدته الموزّعة في أسئلة الموت الكبير مفتوحةً على جرح الحياة، كما فهمها بيتاً بعد بيت، وقصيدة بعد قصيدة، وكما كتبها في كل ما كتب من كتبٍ، تناوش الشعر ولا تبلغه، لكنها تسير على حافة الحياة دائماً.
ماذا لو كان درويش بيننا الآن؟ في كل حدث كبير، وفقاً لمقاييسي الخاصة جداً، أستدعي موتاي من الشعراء على عجلةٍ من أمري، ليشاركوني في الرؤية اتفاقاً واختلافاً معي، كالعادة، وكما يليق بذكراهم في حضوري اليومي. يجيء بعضهم ولا يجيء آخرون. وفي كل استدعاء أشهدهم على الحدث الكبير الذي قد لا يكون كذلك بالنسبة لأي منهم، لأنتظر إجاباتٍ مشتهاة، أعرف أنها لن تأتي، لأن الموتى لا يعودون أبداً ليخبرونا الحقيقة، لا كما كتبوها في قصائدهم، ولا كما انتظروها غيباً مفتوحاً إلى الأبد، بل يعودون فقط ليكونوا جزءاً من حفاوة الذاكرة بتاريخها المثقل.
ولأن محمود درويش الذي حلّق بموته نحو سماوات الشعر، عبر سيرة شعرية مكتملة ما بين الموت والحياة قبل رحيله الأخير بتسع سنوات، بقي الأقرب إلى كل أحداثي الكبيرة في العالم، فقد كان هو الأكثر استجابةً لكل دعوة من غياب الموت. فماذا لو عاد الآن تحديداً؟ ماذا لو قدّر له أن يبحث عن سلته المهملة، ليجدها مليئة بمفاجآت التاريخ اليوم؟ أو أنه لم يذهب أساساً قبل تسع سنوات، وبقي حاملاً جرحه في قاع قلبه، بعيداً عن غرف العمليات، ومشارط الأطباء في مستشفى هيوستن الأميركي، حيث أسلم بقايا الروح لفضاء الغربة البارد؟
مثلاً.. ماذا كان سيكتب عن ثورات مبتسرة في ربيع العرب المتأخر، عبرت أيامنا كحلم سريع البهجة وبطيء الأسى؟ كيف كان يمكنه أن يصرف نظر شعريته من بؤرته المركزية في فلسطين، ليشظيها على عواصم العرب ومدنه الغارقة في محنة الوجود؟ على أي وجهةٍ من وجهات البوصلة الحائرة سيضع رأسه، ليكمل أغنيته المنبعثة من أنين الكمنجات وحنين العود الحزين؟ وفي أي المحطات سينتظر حصانه الذي تركه وحيداً ذات يأس، ولم يعرف كيف يعود إليه؟ ماذا كان سيكتب عن الموت الموزّع على أرصفة اللجوء وشواطئ الغربة فائضاً من معنى الأوطان الصغيرة، ليصنع معناه الجديد في الوطن الكبير؟
هل سيرسم خرائط جديدة ما بين الشعر والنثر لمدن أخرى، تهاوت سريعاً تحت وطأة التآمر المحلي والعربي والعالمي؟ أم سيراجع خرائط المدن القديمة، بعد أن هبت عليها رياح التغيير لتضعها على هوامش الاهتمام؟ هل سيبقى على حيرته المتأرجحة في معنى التطبيع ما بين الفلسطيني وغير الفلسطيني؟ أم سيحسم أمره، وهو يرى قوافل المطبعين تترى تحت شعارات الزيف؟ هل ستأخذه غواية وسائل التواصل الاجتماعي الجديد، لينكشف في ما اجتهد بإبعاده عن عيون المتربصين، كما انكشف كثيرون؟ أم سيستسلم لمشاع المشاعر ومجانيتها في تلك الوسائل، فيلون القصائد كما يناسب هواة جمع المتابعين؟ هل سيفهم أن العالم قد أصيب بجنون غير مسبوق خلال تلك السنوات التسع، بما يقنعه أن موته المشتهى هو الملاذ الوحيد للجميع؟ أم أنه سيشرب من نهر الجنون ليبقى حياً في عالم يموت؟
عموماً.. ما زال مفتاح الجدارية معلقاً فوق رأسي: لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة، ولن يعود درويش أيضاً.