لم يبقَ للسوري إلا القبر المعدني

03 سبتمبر 2015
موت البحر أهون من موت البراميل (Getty)
+ الخط -
روى لي صديقي، الذي ما زال تحت رحمة الصواريخ والبراميل، أنه في عام 1999 خرج في رحلة غير شرعية للعمل في اليونان، مروراً بتركيا، على متن سفينة تجارية.. قصّ عليّ يومها كيف وضعوه مع 24 شخصاً آخرين، داخل مستودع في الطوابق السفلية من السفينة؛ في هذا المستودع فتحة للسقف، تلك التي نزلوا منها إلى داخل المستودع، وفتحة صغيرة جداً للتهوية.. أخبرني صديقي كيف أغلق هذا المستودع بلوح معدني، وتمّ إحكام إغلاقه بواسطة "لِحام كهربائي"، ليبدو كأنه مكان مغلق أصلاً!

روى لي صديقي يومها كيف عانوا من الاختناق، والجوع، والعطش، خلال اليومين الطويلين من الاختباء.. وحدّثني عن حالة اليأس، التي اجتاحته لدى عودته من رحلته.

يحدث أن يستشرف الروائي الفلسطيني، غسان كنفاني، المستقبل في روايته الأولى "رجال في الشمس"، قبل أكثر من نصف قرن من زمن الحروب؛ تدور أحداث الرواية حول رجال ثلاثة ماتوا داخل خزان الماء في رحلة هروب امتهنها كل أبناء القهر، من أجل لقمة العيش، أو ربما بسبب فقدان الأمل حتى في حياة قديمة نحمل ذكرياتها في سجل وجداني، فيتحول شيئاً فشيئاً إلى مفتاح يعلوه الصدأ مع مرور الأيام، هو مفتاح لباب أزيل من مكانه خلال سنوات الحرب التي أبعدت روح المكان عن الجسد المنهك بالموت.. والقهر.. والجوع..

ثلاثة رجال اختصروا معاناة الشعب الفلسطيني في رحلة لجوء إلى المنفى، بعد نكبة أخرجتهم من الديار، وإلى الأبد، يعرفون تماماً أن لا عودة من هذا الخروج العظيم، والمكان الجديد في خيام اللاجئين بدأ يثقل كاهل الروح، فالذل أصبح عادة يومية تمارسها المنظمات الإغاثية تارة، ومن وجدت من أجلهم تارة أخرى..

بعد خمسين عاما ًمن عمر رواية كتبت ما حدث في منتصف 2015، يعيد التاريخ نسج حكايته، متواطئاً مع صفحات وكلمات الرواية، مجسّداً في مشهد واقعي نعيشه بشكل يومي.. نتلمس ثقل معاناته برؤوس منكسة، وشفاه تتمتم ما شاء لها من كلمات الاستسلام لقضاء بدأ يثخن في أرواحنا وحياتنا، على مدى خمس سنوات من موت معلن، لم يكف عن إشهار قوائم الوفيات، بكل أساليب الموت الممكنة..

"من لم يمت تحت البراميل.. أو بقصف الصواريخ مات بغيرها" وهنا يسأل السوري هذه المرة نفسه ما تلك الطريقة التي يمكن أن تكون أكثر هولاً من سقوط برميل من مروحية حاقدة؟؟.. ليأتي الجواب سريعاً: "موت البحر في التغريبة العظيمة الأبدية، التي أعلنت سفر الخروج من تيه الموت المستمر في جنون السلطة والكرسي، الذي يسبح في دماء الأبرياء.. يصرخ البحر بندم المذنبين: لا.. أنا قاتل رحيم، من مات بالاختناق.. هان عليه الموت غرقاً!".

سبعون روحاً، أو تزيد، صعدت إلى السماء وكانت قد حملت أجسادها كرهاً في رحلة بحرية، اعتقدت أنها نجت من الموت غرقاً.

ضحكات.. وحمد وشكر لله على اجتياز الموت الرهيب.. تلك الأرواح التي وقفت على حدود الذل، تحت الشمس الحارقة، تعتصم، وتتظاهر، وتهتف من أجل احترام حقوق الإنسان في دول تلاعبت بأقدارنا يوماً، واحتلتنا عقوداً من الزمن باسم هذه الحقوق.

سبعون روحاً هربت إلى السماء، من قبر معدني خُصص لها لعبور البرزخ الحدودي، خوفاً من بصمة قد تقتل حلم الوصول الى الأمان.. استطاعت الأرواح الهرب، لكن الهواء عاند وأبى أن يدخل لينعش الأجساد المتكدسة داخل القبر المعدني.. هو الهواء القاتل، يدور بعنف المجرم حول ضحيته، دون أن يمنحها فرصة الحياة مرة أخرى.. مع شدة عناده تعلو ابتسامة على ملامحه الشريرة، لكنه يبقى خارج أسوار القبر المعدني لتهرب الأرواح معاتبة الهواء الشرير على فعلته وإجرامه.. تلك لعبة الموت التي احترفها السوري في كل مكان..

أنظر إلى الشاحنة، التي تحمل القبر المعدني، من خلف "كيرستال" الشاشة، وأتساءل محاكياً تلك الرواية القديمة: هل بين هؤلاء الموتى "أبو قيس" الذي فقد بيته وحياته ليعيش تحت سقف الخيمة المهترئ؟ أم هو "مروان" ذاك الشاب الذي ربما خرج من أجل لمّ شمل العائلة في بلاد آمنة؟ و"أسعد" الذي هبّ في المظاهرات، ونادى بأعلى صوته "حرية" أملا ًفي حياة حرية وكرامة.. لم يكونوا ثلاثة هذه المرة، هم سبعون..

سبعون حكاية.. سبعون مأساة، وسبعون روحاً دفنت بإرادتها داخل القبر، ودفع ثمن الدفن سلفاً لذاك المهمل، "أبو الخيزران"، الأوروبي، الذي رأى في هؤلاء السبعين رزمَ أموالٍ يحلم بها، بعد أن فقد رجولته/ إنسانيته..

شخصية "أبو الخيزران" ليست شخصية غير قابلة للتكرار، لكن القاتل الحقيقي يجلس في منفاه القصي، لتعاد الحكاية بعد سبعين عاماً، ثلاثة رجال قتلوا خنقاً داخل خزان بسبب احتلال إسرائيل لبلادهم، وسبعون سورياً يموتون اختناقاً لأن الأسد المعتوه يقتلهم بالبراميل، إلا أن ما يريح النفس أن موت الاختناق أقل قهراً من موت البراميل، فالجسد يبقى بكل تفاصيله، أما تحت براميل الإجرام والحقد، فيتحول إلى أشلاء مبعثرة..

(سورية)
المساهمون