14 نوفمبر 2024
لعبة القط والفأر في مصر
ألغت وزارة الداخلية المصرية إقامة معرض للأثاث، تنظمه وكالة إعلانات رجل الأعمال المصري طارق نور، بعد أسبوعين من توقف برنامج إبراهيم عيسي الذي يبث على فضائية القاهرة والناس المملوكة لنور. وأعادت الواقعة تجسيد إحدى الاستراتيجيات المستخدمة للسيطرة على وسائل الإعلام، عبر ممارسة ضغوط اقتصادية على مالكيها، إذا لم يعجب محتواها الرقيب. وعلى الرغم من أن كل وسائل الإعلام المصرية تعزف تأييداً للسلطة (مع اختلاف الدرجات)، وتجاوز بعضها العزف إلى فنون أخرى، تعرفونها بحكم الخبرات والمتابعة، إلا أن ظهور خطاب إعلامي يتضمن تعقيباتٍ أو نصائح أو تساؤلات حول سياسات الحكومة، أو قرارات الرئيس عبد الفتاح السيسي، تغضب المايسترو، وتجعل ضبط إيقاع العازفين مُجهداً، فهنا نشاز لا يستقيم مع المعزوفة المطلوب عزفها، وتصبح هنا معاقبة من لا يلتزم بالنوتة الموزعة على الكورال الإعلامي فرض عين .
ليست الحالة الأولى التي تشهر فيها بطاقة الإنذار الاقتصادي، تضييقاً كان أو حرماناً من امتيازات وتسهيلات، أو استبعاداً من مشاريع اقتصادية، فعملية الضبط السلطوي، والسلوكي والسياسي، تسمح باستخدام كل السبل لأحكام "الانضباط والنظام والعمل". وقد سبق أن وزع زوار الفجر صورة رجل الأعمال، صلاح دياب، مقيداً بكلابشات، في مشهد سينمائي يستهدف التشهير وإذلال مالك جريدة المصري اليوم، ليس كما روّج حينها أنه مطلوب في قضايا فساد. ربما حظ طارق نور أفضل، وكما يقول المثل " قضا خير من قضا"، وإن كان نور قد خسر مكاسب معرض الأثاث ( نحو 60 مليون جنيه)، فإن الحكمة تستحسن إهانة المال، بدلاً من إهانة النفس.
تقبّل عيسى قرار وقف البرنامج، وأبرى ذمة صاحب القناة، حتى لا يضار في استثماره،
واختار أن يشكر إدارة القناة وفريق الإعداد والجمهور، من دون أي إشارة إلى أسباب الغلق أو جهاته، ولم يصفهم ببلاغته المعهودة وغضبه الممزوج بالسخرية والتهكّم. كانت حلقاته الأخيرة كافية تفسيراً لقرار صدر بوقف البرنامج، فقد تحدّث بوضوح عن سطوة "الصوت الواحد" ونظرية الزعيم التي تحكم مصر، ناهيك عن مناقشاته الجادة للمشكلات الاقتصادية مع عدد من الخبراء، وتعقيباته المستمرة على أداء البرلمان. بلا شك، كان برنامج إبراهيم عيسى، في الشهور الأخيرة، أكثر البرامج الحوارية التى تناولت القضايا الملحة وناقشتها، فتناول المشكلات التى تشغل المصريين، وبغض النظر عن مدى قبول تلك المعالجات أو رفضها، إلا أنها حاولت تقديم نقد للخطاب الحكومي الرسمي، مركزةً على تفنيد جوانب الزيف فيها. وهذا لا يلغي، بالطبع، الاختلاف حول مواقف عيسى، خصوصاً تلك التي اتسمت بتأييد النظام وترويجه منذ عامين، على الرغم من أن مؤشرات تشكل نظام قمعي يطبق سياسات التقشف كانت قائمة وواضحة.
تعطينا واقعة وقف برنامج عيسى إضاءاتٍ حول علاقة الإعلام المصري بالسلطة في اللحظة الراهنة، وترصد لنا تحولات علاقة النخب الإعلامية بأجهزة الدولة، فكلما تعمقت أزمة النظام أصبحت السلطة أكثر عنفاً مع وسائل الإعلام، بغرض تكميمها، حتى لو كانت هذه، في أغلب مواقفها، مؤيدة للسلطة، لكن لحظة الأزمة تفرض على السلطة توخي الحذر الشديد في كل ما يقال أو يبث، وربما ترى الخرس أضمن من الحذر. ومن جانب آخر، تستشعر الطبقات الشعبية الأزمات المتعلقة بالأداء الاقتصادي. وفي هذه الحالة، لا تستطيع النخب الإعلامية أن تستمر في الدعاية المضللة بسهولة. ومع استمرار الأزمات، تبدأ النخب في الإفلاس الدعائي، ولا تجد ما تسوّق به النظام، حينها يلوم النظام الإعلاميين، ويطالبهم بتوضيح إنجازات السلطة وجهودها لإسعاد الشعب، وبالطبع تجاوز الإخفاقات، أو نفيها، لكن قطاعاً من الإعلامين يبدأ في التململ، ويصدر نقداً خافتاً لسياسة التضييق والإملاءات التي تفرض عليها. من جانبٍ آخر، تنتمي واقعة وقف برنامج عيسى إلى مسار التضييق على حرية الرأي والتعبير، الذي تظهر مؤشراته بقوة، وبما أن الإعلاميين جزء من المجتمع، فلهم نصيبهم من الحظر والرقابة والعقاب. وتتعلق ظاهرة المنع المتكرر للبرامج، ومصادرة بعض أعداد الصحف، بسياسة السلطة في "تأميم الإعلام" لصالحها، بداية من الحظر الأمني، وصولاً إلى سن تشريعات لضبط "الانفلات الإعلامي" الذي يزعج مؤسسات الدولة. وبجانب الحظر والمنع، يأتي أسلوب تأميم ملكية وسائل الإعلام، بشراء مؤسسات إعلامية ومؤسساتها عن طريق رؤوس أموال تمثل واجهات للنظام.
بهذه الطرق، يود النظام إحكام السيطرة على وسائل الإعلام والعاملين فيها ومالكيها أيضاً،
وسيستمر في عملية الكر والفر والشد والجذب، حتى مع القطاعات التى تؤيده. إنها لعبه قط وفأر ينتميان إلى مساحة الحركة نفسها.
من جانب آخر، وضع التضييق على مساحات التعبير والرأي الذي طاول بعض مؤيدي السلطة أمام وضع جديد، يهدّد وجودهم ومساحة النفوذ التى امتلكوها، يرى كثيرون منهم أنفسهم صانعي أحداث، وأنهم يشكلون ببرامجهم الرأي العام، ومنهم من اعتبر نفسه أزاح نظماً وأطاح حكومات ووزراء، بينما تقرّر السلطة، وببساطة، وقف برنامج لأحد أبرز الإعلاميين المصريين بطريقة ملتوية.
إلى جانب مظاهر صراع السلطة والإعلام، تستمر أزمة صيغ النقاش في المجال العام حول كل ظاهرةٍ وحدث، ومنها وقف برنامج عيسى، حيث تم نزع الواقعة من سياقها الموضوعي، وارتباطها بموقف السلطة من مساحات حرية الرأي والتعبير، ليتمحور الحديث حول إبراهيم عيسى، سواء الحالة التي صوّرته بشكل طهراني ومبدئي، أو التى اتهمته بخيانة الثورة، والانتهازية، وأنه راكم من مواقفه المؤيدة للسلطة ثرواتٍ طائلة. وفي الحالتين، غيبت القضية الأساسية، وهى حرية الرأي والتعبير، وحل محلها الدفاع عن إبراهيم عيسى أو الهجوم عليه، حسب ما يجري. ربما تأخذ المواجهة بين الإعلام وأجهزة الدولة مستقبلاً شكلاً عنيفا، وإن كان بعضهم يقدم فروض الطاعة، ويكتفي باللوم والاستعطاف، رافعين شعار "نحن صفك ومؤيدوك وسندك ومحاوروك وحواريوك".
ليست الحالة الأولى التي تشهر فيها بطاقة الإنذار الاقتصادي، تضييقاً كان أو حرماناً من امتيازات وتسهيلات، أو استبعاداً من مشاريع اقتصادية، فعملية الضبط السلطوي، والسلوكي والسياسي، تسمح باستخدام كل السبل لأحكام "الانضباط والنظام والعمل". وقد سبق أن وزع زوار الفجر صورة رجل الأعمال، صلاح دياب، مقيداً بكلابشات، في مشهد سينمائي يستهدف التشهير وإذلال مالك جريدة المصري اليوم، ليس كما روّج حينها أنه مطلوب في قضايا فساد. ربما حظ طارق نور أفضل، وكما يقول المثل " قضا خير من قضا"، وإن كان نور قد خسر مكاسب معرض الأثاث ( نحو 60 مليون جنيه)، فإن الحكمة تستحسن إهانة المال، بدلاً من إهانة النفس.
تقبّل عيسى قرار وقف البرنامج، وأبرى ذمة صاحب القناة، حتى لا يضار في استثماره،
تعطينا واقعة وقف برنامج عيسى إضاءاتٍ حول علاقة الإعلام المصري بالسلطة في اللحظة الراهنة، وترصد لنا تحولات علاقة النخب الإعلامية بأجهزة الدولة، فكلما تعمقت أزمة النظام أصبحت السلطة أكثر عنفاً مع وسائل الإعلام، بغرض تكميمها، حتى لو كانت هذه، في أغلب مواقفها، مؤيدة للسلطة، لكن لحظة الأزمة تفرض على السلطة توخي الحذر الشديد في كل ما يقال أو يبث، وربما ترى الخرس أضمن من الحذر. ومن جانب آخر، تستشعر الطبقات الشعبية الأزمات المتعلقة بالأداء الاقتصادي. وفي هذه الحالة، لا تستطيع النخب الإعلامية أن تستمر في الدعاية المضللة بسهولة. ومع استمرار الأزمات، تبدأ النخب في الإفلاس الدعائي، ولا تجد ما تسوّق به النظام، حينها يلوم النظام الإعلاميين، ويطالبهم بتوضيح إنجازات السلطة وجهودها لإسعاد الشعب، وبالطبع تجاوز الإخفاقات، أو نفيها، لكن قطاعاً من الإعلامين يبدأ في التململ، ويصدر نقداً خافتاً لسياسة التضييق والإملاءات التي تفرض عليها. من جانبٍ آخر، تنتمي واقعة وقف برنامج عيسى إلى مسار التضييق على حرية الرأي والتعبير، الذي تظهر مؤشراته بقوة، وبما أن الإعلاميين جزء من المجتمع، فلهم نصيبهم من الحظر والرقابة والعقاب. وتتعلق ظاهرة المنع المتكرر للبرامج، ومصادرة بعض أعداد الصحف، بسياسة السلطة في "تأميم الإعلام" لصالحها، بداية من الحظر الأمني، وصولاً إلى سن تشريعات لضبط "الانفلات الإعلامي" الذي يزعج مؤسسات الدولة. وبجانب الحظر والمنع، يأتي أسلوب تأميم ملكية وسائل الإعلام، بشراء مؤسسات إعلامية ومؤسساتها عن طريق رؤوس أموال تمثل واجهات للنظام.
بهذه الطرق، يود النظام إحكام السيطرة على وسائل الإعلام والعاملين فيها ومالكيها أيضاً،
من جانب آخر، وضع التضييق على مساحات التعبير والرأي الذي طاول بعض مؤيدي السلطة أمام وضع جديد، يهدّد وجودهم ومساحة النفوذ التى امتلكوها، يرى كثيرون منهم أنفسهم صانعي أحداث، وأنهم يشكلون ببرامجهم الرأي العام، ومنهم من اعتبر نفسه أزاح نظماً وأطاح حكومات ووزراء، بينما تقرّر السلطة، وببساطة، وقف برنامج لأحد أبرز الإعلاميين المصريين بطريقة ملتوية.
إلى جانب مظاهر صراع السلطة والإعلام، تستمر أزمة صيغ النقاش في المجال العام حول كل ظاهرةٍ وحدث، ومنها وقف برنامج عيسى، حيث تم نزع الواقعة من سياقها الموضوعي، وارتباطها بموقف السلطة من مساحات حرية الرأي والتعبير، ليتمحور الحديث حول إبراهيم عيسى، سواء الحالة التي صوّرته بشكل طهراني ومبدئي، أو التى اتهمته بخيانة الثورة، والانتهازية، وأنه راكم من مواقفه المؤيدة للسلطة ثرواتٍ طائلة. وفي الحالتين، غيبت القضية الأساسية، وهى حرية الرأي والتعبير، وحل محلها الدفاع عن إبراهيم عيسى أو الهجوم عليه، حسب ما يجري. ربما تأخذ المواجهة بين الإعلام وأجهزة الدولة مستقبلاً شكلاً عنيفا، وإن كان بعضهم يقدم فروض الطاعة، ويكتفي باللوم والاستعطاف، رافعين شعار "نحن صفك ومؤيدوك وسندك ومحاوروك وحواريوك".