01 مارس 2019
لصوص وقتلة في سورية
ابتسام تريسي
القبضاي في المفهوم الشعبي الشامي هو من يذود عن أهله، ويدافع عن عرضه، ويحمي أهل حارته من الاعتداءات الخارجية، ويصون شرف بنات حارته. ولكن هذا المفهوم الشعبي تغير والتبس، بحسب الفترات الزمنية والتاريخية التي مرّت فيها الحارة الدمشقية، وكذلك الوضع الأمني الذي صارت إليه سورية بعد حكم "البعث"، وتغوّل النظام المخابراتي، واستلام حافظ الأسد السلطة وتوريثها لابنه، فقد انزاحت الدلالة إلى نقيضها، وتسيّد مصطلحُ "الشبيح" النسقَ اللغويَّ شعبياً.
أما عربياً فقد تنوعت التسميات لذلك الشخص ذي المنصب السلطوي، فنراه في مصر يسمّى "الفتوة"، واللفظ مأخوذ من قوة الإنسان البدنية المفترضة في سن الشباب. وقد تسلط الفتوّات على رقاب الناس وأرزاقهم في فترات زمنيةٍ، رصدها الأدب وقدّمتها السينما، ورسّختها في أذهان الناس بوجهها السلبي، فالفتوة أصبح ذلك "البلطجي" الذي يحمي الناس مقابل "الخوة" العائد المادي الذي يدفعه هؤلاء لكي لا يعتدي أحد عليهم. وفي حال عدم الدفع، يتعرّض الشخص للإهانة والضرب ونهب ممتلكاته، وأحياناً القتل. وتتم التصفية الجسدية عادة خارج الحارة، أيّ خارج منطقة هيمنة الفتوة، لكي تلصق التّهمة بآخرين وتبرّئ ساحة القاتل. في مطلق الأحوال، يكون القتيل فقيراً، ولا سند له، ولن يفكّر أحد بأخذ ثأره.
تحوّل الجيش في سورية إلى "فتوة - شبّيح"، حين يفرض سيطرته على منطقةٍ أو مدينةٍ ينهبها، ويقوم بتعفيش البيوت المهدمة وغير المهدمة، حتّى التي ما زال أصحابها فيها تتعرّض للسرقة. والمفترض، أو ما يفترضه هؤلاء، أنّهم يأخذون حقّهم الذي منحته لهم سلطات النظام الحاكم، حين أطلقت أيديهم، لينهبوا ما داموا يقاتلون في صفوف النظام، ويحمون وجوده.
وقد تمت ترجمة هذا المفهوم على الأرض بأبشع صوره، فمدينة حلب، مثلا، تعاني من الفوضى الأمنية، مع أنّها عادت إلى "حضن النظام"، واستتب الأمن فيها (كما يشاع)، وقالت السلطة إنه تم القضاء فيها على "الإرهابيين"، غير أن المليشيات المتعددة نصبت حواجزها في مداخل المدينة المؤدية إلى الأرياف، ومداخل الأحياء. وانتشرت المليشيات التي تحمل أسماء لها دلالة خاصة كالعادة، ومنها لواء الباقر ولواء القدس وكتائب البعث والدفاع الوطني. بالإضافة إلى عشائر محلية كوّنت مليشيات خاصة بها، وانتشرت معها الحواجز العسكرية التابعة لها. وتجبر حواجز المليشيات في الأحياء وأطراف المدينة الناس على دفع الضرائب والرسوم، ولكلّ واحدة منها سياسة مختلفة، وتفرض رسوماً ضريبية على الصناعيين وأصحاب المهن الحرّة. وتفرض أيضا رسوماً على البضائع في أثناء نقلها وشحنها إلى الريف، وتصل الرسوم المفروضة على الشاحنات إلى ألفي دولار.
أكثر الناس تضرراً هم أصحاب المشاريع الصغيرة الذين اضطروا لإغلاق محلاتهم، لعجزهم عن تسديد المبالغ المطلوبة منهم. أمّا أصحاب المشاريع الكبيرة في "الشيخ نجار" (المنطقة الصناعية في حلب) فيدفعون لقادة المليشيات وقوات أمن النظام مبالغ كبيرة، للحفاظ على ممتلكاتهم وحمايتهم. بالإضافة إلى هذا، انتشرت أعمال الخطف، بهدف الحصول على الفدية. ويطلب الخاطفون مبالغ كبيرة، قد يعجز عنها أقارب المخطوف في الغالب، فيصفى جسدياً، ويحدث أن يكون الخطف والقتل بسبب تسوية حساباتٍ شخصيةٍ أيضاً.
وليست المناطق التي يسيطر عليها النظام وحدها ما يعاني سكّانها من الخطف من أجل طلب الفدية، أو لتصفية حسابات شخصية، أيضا المناطق المسمّاة خطأ "محرّرة" ترزح تحت حكم السلاح والفصائل المختلفة التي تغضّ بصرها عن القتل والخطف؛ لأنّها شريكة في الاثنين، بالإضافة إلى فرضها نظام "الحماية الخوة" على النّاس بالإكراه. ففي المحرّر يدفع كلّ شخص (صاحب عمل حر أو مالك بناء أو يملك ماشية) للمسلحين لحماية أملاكه راتباً شهرياً تحت التهديد بفك الحماية، وتركه عرضة للخطف والقتل وللنهب والسرقة.
وبالنظر إلى ما يحدث في الجانبين (المناطق المحرّرة ومناطق النظام) العقلية التي تحكم
واحدة، والأسلوب الوحشي واحد، وآلية الخطف والتعذيب هي نفسها، ففي منطقة مصيبين شرق مدينة أريحا أكبر معسكرات جبهة النصرة التابعة لزعيمها أبو محمد الجولاني، خُطِف أخيرا صاحب منجرة، وقيّد وعُذّب، وانتشر فيديو مشاهد ذلك على مواقع التواصل، وهو يرجو أهله ليبيعوا كلّ شيء، ويدفعوا الفدية لخاطفيه.
إن لم يكن الخاطفون من رجال الجولاني نفسه، فلماذا لا يتصدون لعمليات الخطف والقتل، وهم يتجولون في المدن ليل نهار حاملين أسلحتهم؟ الانتشار بهدف الحفاظ على الأمن، هذا ما يعلنونه! مع هذا تكثر حوادث القتل والاختطاف. عدا عن قتل الناشطين في وضح النهار، كما حدث حين اغتيل، في كفرنبل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، رائد الفارس وحمود جنيد.
لم تذهب التربية البعثية التي أنشأ حافظ الأسد عليها الأجيال طوال فترة حكمه هدراً. يقطف "المحرّر" الثمار، ويقطف المحتل الثمار. وتصب العائدات في جيوب الجولاني الذي أطلقه بشّار الأسد، ليكون يده التي تخطف وتقتل وتبيد وتقضي على الثورة في قلعتها الأخيرة.
دفع هذا كله بعضهم، أو معظم الناس في "المناطق المحرّرة" لطلب الحماية التركية، فالإنسان البسيط ما عاد يحلم بغير الأمان، بعد أن أصابه القنوط واليأس من شعارات المقاومة والممانعة لدى النظام، وكذلك من الشعارات الإسلامية التي تختبئ خلفها الفصائل الإسلاموية في المناطق التي تسيطر عليها.
تحوّل الجيش في سورية إلى "فتوة - شبّيح"، حين يفرض سيطرته على منطقةٍ أو مدينةٍ ينهبها، ويقوم بتعفيش البيوت المهدمة وغير المهدمة، حتّى التي ما زال أصحابها فيها تتعرّض للسرقة. والمفترض، أو ما يفترضه هؤلاء، أنّهم يأخذون حقّهم الذي منحته لهم سلطات النظام الحاكم، حين أطلقت أيديهم، لينهبوا ما داموا يقاتلون في صفوف النظام، ويحمون وجوده.
وقد تمت ترجمة هذا المفهوم على الأرض بأبشع صوره، فمدينة حلب، مثلا، تعاني من الفوضى الأمنية، مع أنّها عادت إلى "حضن النظام"، واستتب الأمن فيها (كما يشاع)، وقالت السلطة إنه تم القضاء فيها على "الإرهابيين"، غير أن المليشيات المتعددة نصبت حواجزها في مداخل المدينة المؤدية إلى الأرياف، ومداخل الأحياء. وانتشرت المليشيات التي تحمل أسماء لها دلالة خاصة كالعادة، ومنها لواء الباقر ولواء القدس وكتائب البعث والدفاع الوطني. بالإضافة إلى عشائر محلية كوّنت مليشيات خاصة بها، وانتشرت معها الحواجز العسكرية التابعة لها. وتجبر حواجز المليشيات في الأحياء وأطراف المدينة الناس على دفع الضرائب والرسوم، ولكلّ واحدة منها سياسة مختلفة، وتفرض رسوماً ضريبية على الصناعيين وأصحاب المهن الحرّة. وتفرض أيضا رسوماً على البضائع في أثناء نقلها وشحنها إلى الريف، وتصل الرسوم المفروضة على الشاحنات إلى ألفي دولار.
أكثر الناس تضرراً هم أصحاب المشاريع الصغيرة الذين اضطروا لإغلاق محلاتهم، لعجزهم عن تسديد المبالغ المطلوبة منهم. أمّا أصحاب المشاريع الكبيرة في "الشيخ نجار" (المنطقة الصناعية في حلب) فيدفعون لقادة المليشيات وقوات أمن النظام مبالغ كبيرة، للحفاظ على ممتلكاتهم وحمايتهم. بالإضافة إلى هذا، انتشرت أعمال الخطف، بهدف الحصول على الفدية. ويطلب الخاطفون مبالغ كبيرة، قد يعجز عنها أقارب المخطوف في الغالب، فيصفى جسدياً، ويحدث أن يكون الخطف والقتل بسبب تسوية حساباتٍ شخصيةٍ أيضاً.
وليست المناطق التي يسيطر عليها النظام وحدها ما يعاني سكّانها من الخطف من أجل طلب الفدية، أو لتصفية حسابات شخصية، أيضا المناطق المسمّاة خطأ "محرّرة" ترزح تحت حكم السلاح والفصائل المختلفة التي تغضّ بصرها عن القتل والخطف؛ لأنّها شريكة في الاثنين، بالإضافة إلى فرضها نظام "الحماية الخوة" على النّاس بالإكراه. ففي المحرّر يدفع كلّ شخص (صاحب عمل حر أو مالك بناء أو يملك ماشية) للمسلحين لحماية أملاكه راتباً شهرياً تحت التهديد بفك الحماية، وتركه عرضة للخطف والقتل وللنهب والسرقة.
وبالنظر إلى ما يحدث في الجانبين (المناطق المحرّرة ومناطق النظام) العقلية التي تحكم
إن لم يكن الخاطفون من رجال الجولاني نفسه، فلماذا لا يتصدون لعمليات الخطف والقتل، وهم يتجولون في المدن ليل نهار حاملين أسلحتهم؟ الانتشار بهدف الحفاظ على الأمن، هذا ما يعلنونه! مع هذا تكثر حوادث القتل والاختطاف. عدا عن قتل الناشطين في وضح النهار، كما حدث حين اغتيل، في كفرنبل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، رائد الفارس وحمود جنيد.
لم تذهب التربية البعثية التي أنشأ حافظ الأسد عليها الأجيال طوال فترة حكمه هدراً. يقطف "المحرّر" الثمار، ويقطف المحتل الثمار. وتصب العائدات في جيوب الجولاني الذي أطلقه بشّار الأسد، ليكون يده التي تخطف وتقتل وتبيد وتقضي على الثورة في قلعتها الأخيرة.
دفع هذا كله بعضهم، أو معظم الناس في "المناطق المحرّرة" لطلب الحماية التركية، فالإنسان البسيط ما عاد يحلم بغير الأمان، بعد أن أصابه القنوط واليأس من شعارات المقاومة والممانعة لدى النظام، وكذلك من الشعارات الإسلامية التي تختبئ خلفها الفصائل الإسلاموية في المناطق التي تسيطر عليها.
دلالات
مقالات أخرى
13 فبراير 2019
11 ديسمبر 2018
25 نوفمبر 2018