كل هذه التفاهة

01 مارس 2019
+ الخط -
لا يمكن إطلاق التفاهة صفةً لهذا العصر وحده، فقد كُرّست عبر العصور بأشكال مختلفة، لكنّ عصرنا أتاح تفشّيها وانتشارها بصورةٍ أكبر، بسبب قنوات التلفزة الموجّهة، وقنوات التواصل الاجتماعي التي منحت الفرصة لكلّ البشر، كي يشاركوا في إنتاجها وتسويقها، بمختلف طوائفهم وعروقهم وانتماءاتهم ولغاتهم. ودائماً تحضر التفاهة، حيث ينتشر الجهل، وحيث ينكفئ العلم، فتغدو البيئة ملائمةً جداً لنشوء مستعمرات هذه البكتريا القاتلة. ويكفي في أيّ دولةٍ ضرب قطاعَيْ التعليم والقضاء لإنتاج مجتمع جاهل، يملك الاستعداد المسبق للتماهي مع كلّ تافهٍ ورديء.
لم يسلم أيٌّ من مجالات الحياة العربية من تغلغل الرداءة وتصديرها ورفعها وجعلها في الواجهة. فطاولت السياسة والأدب والإعلام.. والسياسة في الوطن العربي ليست إلا صورة لتسويق ما هو رديء وتافه، فأن يقف رئيس دولةٍ ليخطب في أمّةٍ عريقة التاريخ، سكّانها حوالي مائة مليون إنسان، ويحاول تبرير عجزه عن حل معضلة الاقتصاد المتدهور بالقسم أنّه لو يستطيع بيع نفسه لفعل من أجل صالح الأمة، فذلك منتهى التردي الفكري والأخلاقي، وتعبير صارخ عن التفاهة. وفي الأدب، تُصدّر أعمال رديئة من خلال جوائز ودور نشر ومواقع تسويق إلكترونية، وعن طريق الفهلوة التي يتميّز بها بعض الكتاب، أصحاب الإمكانات الإبداعية المحدودة، مقابل الشطارة في إنشاء العلاقات العامة مع الكبار، على مبدأ من عاشر الكبار صار كبيراً. عقدة الألقاب، وتحديداً مصطلح "الكاتب الكبير"، تتمكّن من الكتبة، فإن لم يجدوا من يطلق عليهم اللقب أطلقوه على أنفسهم. لذا؛ يُلزمون أنفسهم بإصدار أعمالٍ لا قيمة لها، لكنّهم مطمئنون لأنّ هناك من يطبّل ويزمّر ويمتدح أعمالهم بما ليس فيها، وهناك من يسوّق تلك الأعمال بطريقة ذكية، تجعلها في الصدارة من حيث المبيعات التي يعتمدها أصحاب دور النشر مقياسا للجودة! بعد أن تمت صناعة جاهلٍ يتمتع بشهادة محو أميّة.
وبشأن الإعلام، تفوّق إعلاميو الأنظمة، المصريون، السوريون، السعوديون، تحديداً، على 
أنفسهم. ومن أبجديات الإعلام الرسمي للأنظمة الحاكمة أن يكون الإعلامي ذا ولاء مطلق، لا تشوبه شائبة العقل والتفكير. ولتكون مذيعاً مثلاً في إحدى المحطات التابعة لتلك الأنظمة، عليك أن تتمتع بالغباء إلى جانب الطاعة العمياء، حتى لو اضطررت إلى تكذيب نفسك بإذاعة الخبر نفسه بعدة أشكال حسب الطلب! يرى المتابع لقضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في تلك القنوات، بوضوح، كيف حلّل هؤلاء القضية خلال شهر من الجريمة النكراء، وكيف كانت أقوالهم تتغيّر، بحسب الرواية الرسمية للنظام السعودي، فأحمد موسى مثلاً ضارب حتّى على المحطات السعودية الرسمية.
وللإعلام مهمة محددة، هي حصر تفكير الناس في السفاسف، إلى درجة يغدو فيها فستان الممثلة رانيا يوسف مثلاً قضية عالمية، اكتسحت جميع مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامَين المكتوب والمرئي. وقد انشغل كثيرون بالتفكير في فستان ممثلة، وتحويله إلى قضية رأي، ولهذا الأمر دلالات عميقة، حيث القتل والتدمير والاغتصاب ومصادرة الحريات، وحتّى الجوع، في بلاد عربية عديدة.
.. على موقع التواصل الاجتماعي، إنستغرام، حصدت صورة بيضة حوالي 51 مليون لايك! محطمة بذلك الرقم القياسي السابق، وتحولت البيضة إلى قضية وهاجس لدى ملايين من المتابعين. والسؤال: ما سرُّ البيضة؟ ولماذا حظيت بهذا العدد الهائل من الإعجابات؟ فقط لأنّ النّاس تميل إلى الأشياء الغامضة التي لا تعرف لها تفسيراً، ويخشى بعضهم أن يكون هناك وراء الأمر معنى لم يتوصل إليه بتفكيره البسيط، فينخرط ضمن القطيع، ويبدي إعجابه؛ لأنّ ذلك سيعني بالضرورة أنّه "فهماااان".
ذكّرتني صورة البيضة بانشغال عقول العامة ببيضة الديك، أهي حقيقة؟ هل حقّاً يمكن للديك أن يبيض. والقضية الشائكة الأخرى "أيّهما كان أولاً البيضة أم الديك؟". وهل يمكن للتيس أن يدرّ حليباً؟ وهناك مثل شعبي "أقول له: تيس. فيقول: احلبه". في الثمانينيات من القرن الماضي، تفتّقت قريحة رجل بدوي عن فكرةٍ مفادها أن تيسه يدر حليباً يشفي من أمراض كثيرة، خصوصا العقم. لاحظوا، العقم مربط الفرس، ولماذا الفرس؟ لأنّها أنثى، والضحك على عقول 
نساء كثيرات، واستمالتهن للأمور الخرافية والمستحيلة أمر سهل، فالمرأة بطبيعتها لا تجد شيئاً مستحيلاً، وهي تنظر إلى الأشياء بحنكتها التاريخية التي تذلّل الصعاب منذ عصر الأمومة الذي اخترعت فيه الزراعة، وكانت الكاهنة والعرّافة والأم المدبرة.. ليس الأمر كذلك، بل المرأة تؤمن بالطاقة الروحية التي مارست أساليبها الكاهنات عبر التّاريخ، واستطعن من خلالها اجتراح المعجزات، ليس صعباً على النّساء تصديق أمر التّيس؛ لأنّهنّ يعتبرنه مجرّد واسطةٍ ينقصها إيمانٌ عميق كي تتحقّق، والإيمان موجود في أعماق النّساء اللواتي يلجأن إلى مثل هذه الحلول، بدل لجوئهن إلى الطب. الميل الفطري لديهن للأمور الخارقة وقوى الطبيعة البعيدة عن العلم، هو ما يساعدهنّ على تحقيق نسبة شفاء تدعم موقف المشعوذ، فيطير صيته.
صارت خيمة التيس التي نُصبت في البادية مزاراً للمرضى من جميع أنحاء سورية، حتّى إنّ بعضهم كان ينتظر أياماً كي يحظى بدورٍ للشرب من حليب التيس الذي يحرن أحياناً، ويجفّ ضرعه، ويترك البشر في العراء خارج الخيمة يعانون من الطقس والمرض والانتظار. انتهت حكاية التيس بعد فترة، وطار التيس والخيمة، وطار البدوي مع المال الذي جناه إلى مكانٍ لا تطاوله فيه يد القانون، وربّما إلى مكان لا قانون فيه أصلاً.
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
ابتسام تريسي
ابتسام تريسي