13 نوفمبر 2024
لصوص محترفون يديرون دولة
سألني صديق عن المرادف العربي للمصطلح، الذي كان قد أطلقه باتريك كوكبورن، مراسل صحيفة الإندبندنت، على الحكم في العراق، وهو "حكم كليبتوقراطي" (Institutionalised Kleptocracy). أورد صديق آخر على "فيسبوك" عبارة "حكومة لصوص" للدلالة على المصطلح. اجتهدت في القول إن المعنى العربي الأقرب هو "حكم لصوص محترفين يجعلون من سرقة ثروة البلد عملاً مؤسساتياً منظما"، وتبدو هذه الصورة ماثلةً أمامنا على أرض الواقع العراقي، على مدى دزينة السنين التي أعقبت الغزو الأميركي، وهي التي جعلت العراق ينحدر إلى ذيل قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم.
بالرجوع إلى أرشيف كوكبورن، وهو الذي خبر العراق واختبره، وكتب عنه أكثر من كتاب، ومقالات عديدة، على مدى سنوات من عمله مراسلاً لصحيفته في المنطقة، نجده يؤشر في أكثر من مقالةٍ إلى أن الفساد عقد حياة الناس في العراق، وسمّم أجواءهم. تكاد الحكايات التي يرويها لا تصدّق، وهي وإن كانت ترجع إلى السنوات العشر الأولى من عمر الغزو، إلا أننا نجدها ما تزال ماثلة في طول البلاد وعرضها، وما قاله ناشط سياسي عراقي لمراسل "الإندبندنت" قبل سنوات هو نفسه ما نسمعه اليوم: "إنْ حاولت الحصول على عمل في الجيش، أو الإدارات المدنية، عليك أن تدفع، وإذا كان القدر قد أودى بك إلى السجن، لن تستطيع أن تخرج من دون أن تدفع، وحتى لو أفرج القاضي عنك لبراءتك، عليك أن تدفع لإنجاز معاملة خروجك، ولو كنت حراً، فقد يلقي القبضَ عليكَ ضباطٌ دفعوا من عشرة إلى خمسين ألف دولار، ثمن شراء مناصبهم الوظيفية، ويحتاجون لاسترجاع أموالهم".
أضحى كل شيء في العراق (المحرّر) قابلاً للبيع، إلى درجة أن بعض الناس العاديين، أو الموظفين الصغار، تحولوا إلى سرّاق للمال العام، بحكم الواقع المحيط بهم، وابتدعوا أساليب ابتزازٍ لم تعرف في عهود سابقة. سجين كان عليه أن يدفع مائة دولار إلى سجانه، ليسمح له بالاغتسال في حمام السجن، ومقاول شيّد داره عند أنبوب بترول مدفون في الأرض، وشرع في استخراج النفط وشحنه، وبيعه لحسابه الخاص.
وأضيف ما أفادني به قريب: للمواطن الميت ثمن أيضاً، حيث لا تعطى رخصة دفن الجثة، إلا بعد دفع المقسوم.
ثمة حكايات أخرى عن السياسيين ورجال الدولة، اختبرها كوكبورن في زياراته المتعددة بغداد. يعيش هؤلاء المنتفعون من الحكم حياة أسطوريةً باذخةً، متخفين وراء جدران المنطقة الخضراء، ولا يظهرون في شوارع بغداد إلا وهم متنقلون في مواكب مسلحة، ومعظم الأموال التي اختلسوها ذهبت إلى خارج البلاد، فيما عدا بقية صغيرة حفظت في البنوك المحلية، أو احتوتها حقائب لاستثمارها في تجارة العقار، طريقاً لغسيلها.
لكن، ما الذي مكّن هؤلاء السياسيين من استمرار حكمهم على هذا النحو؟ يقدّم كوكبورن نوري المالكي مثالاً، عندما كان على رأس السلطة. المنهج الذي اتبعه يكمن في تخصيص عقود ومقاولاتٍ إلى مسانديه ومعارفه، وحتى إلى معارضيه، حيث يسعى إلى كسبهم إلى جانبه، ليست هذه نهاية الحكاية، حيث أن المنتفعين من كرمه إذا ما فكّروا في الخروج عن الخط الذي رسمه لهم، سيكونون مهدّدين بالكشف عنهم وإحالتهم إلى القضاء.
قال مراقب لكوكبورن إن المالكي يشبه، في مسلكه، إدغار هوفر مدير مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي الراحل، الذي بقي في منصبه نحو نصف قرن، وكان الشخصية الأقوى في البلاد، وعرف باستخدامه الملفات وسيلة ابتزاز وتهديد، ليس لمناوئيه فقط، وإنما أيضاً لمسانديه الذين قد يخرجون على طاعته.
كل رجال "النخبة" العراقية الحاكمة يفعلون ما فعله المالكي، ويتبادلون التهم بينهم، لكنهم يتوحّدون عند شعورهم بالخطر. هنا تذهب كل وعود القضاء على الفساد في مهب الريح، وتصبح إعادة تشكيل نظام الحكم أمراً أقرب إلى المستحيل، خصوصاً وأن الهيئات المكلفة قانوناً بمواجهة الفساد أزيلت أنيابها، أو همشت، أو أرهبت.
ما الذي جعل الفساد يصل إلى هذا الحد؟ في تسعينيات القرن الماضي، دمر حصار الأمم المتحدة المجتمع العراقي. وفي عام 2003، جاء الأميركيون فأسقطوا الدولة، وسلموا بقاياها إلى حفنة من الأفاقين واللصوص، وهذا ما جعل الفساد يضرب أطنابه، ويمتد إلى كل زاوية وموقع، ليصبح اليوم اجتثاثه مستحيلاً، ما لم يجتث اللصوص المحترفون المنظمون الغارقون في الفساد أنفسهم.
بالرجوع إلى أرشيف كوكبورن، وهو الذي خبر العراق واختبره، وكتب عنه أكثر من كتاب، ومقالات عديدة، على مدى سنوات من عمله مراسلاً لصحيفته في المنطقة، نجده يؤشر في أكثر من مقالةٍ إلى أن الفساد عقد حياة الناس في العراق، وسمّم أجواءهم. تكاد الحكايات التي يرويها لا تصدّق، وهي وإن كانت ترجع إلى السنوات العشر الأولى من عمر الغزو، إلا أننا نجدها ما تزال ماثلة في طول البلاد وعرضها، وما قاله ناشط سياسي عراقي لمراسل "الإندبندنت" قبل سنوات هو نفسه ما نسمعه اليوم: "إنْ حاولت الحصول على عمل في الجيش، أو الإدارات المدنية، عليك أن تدفع، وإذا كان القدر قد أودى بك إلى السجن، لن تستطيع أن تخرج من دون أن تدفع، وحتى لو أفرج القاضي عنك لبراءتك، عليك أن تدفع لإنجاز معاملة خروجك، ولو كنت حراً، فقد يلقي القبضَ عليكَ ضباطٌ دفعوا من عشرة إلى خمسين ألف دولار، ثمن شراء مناصبهم الوظيفية، ويحتاجون لاسترجاع أموالهم".
أضحى كل شيء في العراق (المحرّر) قابلاً للبيع، إلى درجة أن بعض الناس العاديين، أو الموظفين الصغار، تحولوا إلى سرّاق للمال العام، بحكم الواقع المحيط بهم، وابتدعوا أساليب ابتزازٍ لم تعرف في عهود سابقة. سجين كان عليه أن يدفع مائة دولار إلى سجانه، ليسمح له بالاغتسال في حمام السجن، ومقاول شيّد داره عند أنبوب بترول مدفون في الأرض، وشرع في استخراج النفط وشحنه، وبيعه لحسابه الخاص.
وأضيف ما أفادني به قريب: للمواطن الميت ثمن أيضاً، حيث لا تعطى رخصة دفن الجثة، إلا بعد دفع المقسوم.
ثمة حكايات أخرى عن السياسيين ورجال الدولة، اختبرها كوكبورن في زياراته المتعددة بغداد. يعيش هؤلاء المنتفعون من الحكم حياة أسطوريةً باذخةً، متخفين وراء جدران المنطقة الخضراء، ولا يظهرون في شوارع بغداد إلا وهم متنقلون في مواكب مسلحة، ومعظم الأموال التي اختلسوها ذهبت إلى خارج البلاد، فيما عدا بقية صغيرة حفظت في البنوك المحلية، أو احتوتها حقائب لاستثمارها في تجارة العقار، طريقاً لغسيلها.
لكن، ما الذي مكّن هؤلاء السياسيين من استمرار حكمهم على هذا النحو؟ يقدّم كوكبورن نوري المالكي مثالاً، عندما كان على رأس السلطة. المنهج الذي اتبعه يكمن في تخصيص عقود ومقاولاتٍ إلى مسانديه ومعارفه، وحتى إلى معارضيه، حيث يسعى إلى كسبهم إلى جانبه، ليست هذه نهاية الحكاية، حيث أن المنتفعين من كرمه إذا ما فكّروا في الخروج عن الخط الذي رسمه لهم، سيكونون مهدّدين بالكشف عنهم وإحالتهم إلى القضاء.
قال مراقب لكوكبورن إن المالكي يشبه، في مسلكه، إدغار هوفر مدير مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي الراحل، الذي بقي في منصبه نحو نصف قرن، وكان الشخصية الأقوى في البلاد، وعرف باستخدامه الملفات وسيلة ابتزاز وتهديد، ليس لمناوئيه فقط، وإنما أيضاً لمسانديه الذين قد يخرجون على طاعته.
كل رجال "النخبة" العراقية الحاكمة يفعلون ما فعله المالكي، ويتبادلون التهم بينهم، لكنهم يتوحّدون عند شعورهم بالخطر. هنا تذهب كل وعود القضاء على الفساد في مهب الريح، وتصبح إعادة تشكيل نظام الحكم أمراً أقرب إلى المستحيل، خصوصاً وأن الهيئات المكلفة قانوناً بمواجهة الفساد أزيلت أنيابها، أو همشت، أو أرهبت.
ما الذي جعل الفساد يصل إلى هذا الحد؟ في تسعينيات القرن الماضي، دمر حصار الأمم المتحدة المجتمع العراقي. وفي عام 2003، جاء الأميركيون فأسقطوا الدولة، وسلموا بقاياها إلى حفنة من الأفاقين واللصوص، وهذا ما جعل الفساد يضرب أطنابه، ويمتد إلى كل زاوية وموقع، ليصبح اليوم اجتثاثه مستحيلاً، ما لم يجتث اللصوص المحترفون المنظمون الغارقون في الفساد أنفسهم.