08 نوفمبر 2024
لبنان ومتلازمة آل الحريري
بين الفينة والأخرى، يطلُّ بهاء الدين الحريري، نجل رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري، برأسه على المناخ السياسي في لبنان، ليستطلع الأجواء، ويرى إن كان ثمّةَ حظوظ له للعب دورٍ في حياة البلاد السياسية، أسوة بأخيه الأصغر سعد. وتفصل سنوات بين الإطلالة والأخرى، من دون أن نعلم ما إذا كان سبب إدباره موضوعياً، يتعلق بحال البلاد والمشكلات التي تعانيها، أو ذاتياً، يتعلق به وبقدرته على إدارة ملفات البلاد الشائكة التي ستلحق به تهمة الفشل، كما لحقت بأخيه، وبغيره من رؤساء الحكومات والسياسيين الذين نسخوا تجارب من سبقوهم، والذين جانبوا الصواب في إدارتها فزادوا مشكلاتها تعمُّقاً.
وعلى الرغم من أنه لا يقيم في لبنان، وربما يجهل تفاصيل الحياة السياسية فيه وأسرارها، إلا أن ذلك لم يمنع بهاء الحريري من تكرار محاولة الحصول على منصب رئيس الحكومة، أو على الأقل تنصيب نفسه زعيماً، مستفيداً من إرث والده السياسي والمالي الذي استفاد منه أخوه سعد من قبل، ومستفيداً كذلك من طبيعة النظام اللبناني القائم على التوريث السياسي وإمكاناته. ولذلك أطلَّ أخيرا، عبر بيان غريبٍ عن ثقافة آل الحريري، أصدره بداية شهر مايو/ أيار الحالي، ساند فيه مطالب ثورة الشعب اللبناني لتغيير النظام. كما أطلَّ عبر ما سمِّيت "منتديات" أسسها في الفترة الأخيرة، لكسب أنصارٍ له من أبناء الطائفة السنية، عبر تقديم الأموال. وبذلك اكتسب موالين استعار غالبيتهم من تيار المستقبل الذي يرأسه أخوه، ممن انفضّوا عنه بعد تراجع شعبية التيار بين اللبنانيين، إثرَ تراجع إمبراطوريته التجارية والاعلامية في السعودية ولبنان.
وظهر أنصاره لدى إحياء ذكرى اغتيال والده، في 14 فبراير/ شباط الماضي، واشتبكوا مع أنصار أخيه بجانب الضريح. وواظب بهاء على استغلال أي وهنٍ يصيب أخاه ليطرح نفسه بديلاً له، وهو الذي شاءت الأقدار استبعاده عن وراثة والده سياسياً، حين فاضلت السعودية بينه وبين أخيه الأصغر سعد، لشغل هذا الموقع، فوقع اختيارها على سعد.
قبل الآن، جرى تداول اسم بهاء في يوليو/ حزيران 2010، حين أطلَّ أول مرةٍ عبر مكتبٍ
حمل اسمه في بيروت، باعتباره مستقلاً عن العائلة، في محاولةٍ لحجز موقعٍ سياسيٍّ على الخريطة السياسية للبلاد. ولكن هذا المكتب فشل في إبراز الرجل. ثم عاد اسمه إلى الظهور بعد استقالة أخيه من رئاسة الحكومة، في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، التي قدمها من الرياض عبر شاشة إحدى قنوات التلفزة السعودية، والتي قيل إنها فرضت عليه، وإنه رهْن الإقامة الجبرية هناك، يوم وَضَع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أمراءً ورجال أعمال رهْن الإقامة الجبرية في فندق ريتز كارلتون في الرياض... يومها جرى الحديث عن طرح السعودية بهاء بديلاً لسعد في لبنان، فلاقى هذا الطرح استهجاناً من الشارع المؤيد لسعد، وساهم في زيادة نسبة المؤيدين له الذين أحسّوا بالظلم الذي وقع عليه من حكام الرياض، وزاد من معارضتهم لتدخلها في شؤون بلادهم. ووصل الأمر ببعض تيار الحريري، نهاد المشنوق، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية، إلى الادلاء بتصريحٍ لافتٍ، قال فيه ردّاً على نية السعودية تبديل سعد ببهاء: "تجري الأمور في لبنان بالانتخابات، لا بالمبايعات"، غامزاً من قناة السعودية التي تحرِّم مبدأ الانتخابات. وأضاف محتدّاً: "لسنا قطيع أغنامٍ أو أرضاً تنتقل ملكيتها من شخصٍ إلى آخر".
يحاول بهاء استخدام انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول مطيةً للوصول إلى غاياته، فتبنّى شعاراتها، من دون أن ينتبه إلى أن هذه الانتفاضة ترفض مبدأ التوريث، ورفعت شعار التخلص من كل الطبقة الحاكمة ومبادئها، فيما هو يتكل على إرث والده، الإرث الذي جاء مدّعياً محاولة إحيائه للوصول إلى الحكم. ولاحظ ناشطو الانتفاضة أن خطته تتعارض مع شعارات انتفاضتهم الرافضة وعود السياسيين التي تفتقر لخطط واضحة، وهو ما ينطبق عليه، كونه يفتقد لمشروعٍ كهذا ينقذ البلاد من الكارثة التي تعيشها، ومن الانهيار الذي على وشك الوقوع.
ولكن لماذا يبقى لبنان ساحةً لكلِّ من يعنّ على باله لعب دورٍ سياسي، حتى لو لم يكن مقيماً في البلاد، ولا يعرف شيئاً عن زواريبها السياسية؟ كذلك يطرأ سؤال مفاده: لماذا سيبقى لبنان أسيراً لآل الحريري، التي أصابت لبنان، هي وممثلوها، مثل متلازمةٍ مرضيةٍ لا تحل عن البلد السقيم أصلاً؟ هذه العائلة التي وسمت مراحل تاريخه القريب بسماتها، باعتبارها تمثِّل الرأسمال المتوحش، منذ توقيع اتفاق الطائف، سنة 1989. وكان لرفيق الحريري دورٌ في الاتفاق الذي، وعلى الرغم من أنه أنهى الحرب، لكنه لم ينهِ أسبابها؛ إذ كرَّس زعماء المليشيات الطائفية التي كانت تتصارع خلال الحرب زعماء في فترة السلم. وكرّس أيضاً قوتهم العدوانية التي صادرت أصوات أبناء طوائفهم وحرمتهم من أي دور سياسي أو اقتصادي مستقلٍّ عنهم. وعلى الرغم من أنها لم تقدِّم للبنان أي مشروع نهوضٍ اقتصادي، منع القمع الذي مارسته الطبقة التي تمثلها العائلة على المواطنين، وسياسة المحاصصة الاقتصادية والإعلامية التي اتبعتها، ظهور أي مشروع وطنيٍّ واجتماعيٍّ جامعٍ، يكون بديلاً عن المشاريع التي خرَّبت اقتصاده، والتي تعد نسخةً من التي كانت متَّبعةً قبل الحرب، والتي أفقَرت جزءاً كبيراً من أبنائه، وأوصلت البلاد إلى الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنةً.
أما اللبنانيون الذين ما زالوا يتندّرون بعبارة بهاء "يا أيها القوم"، حين ناداهم بها في أثناء الصلاة
على جثمان والده، يوم حملوه على الأكتاف لتكريسه وريثاً لإرث والده السياسي، فليسوا في وارد الالتفات إلى الشعارات المذهبية التي يطرحها هذه الأيام، والتي تعود إلى تلك الفترة. هذه الشعارات التي تلعب على الوتر المذهبي لإعادة تجييش الشارع السني من أجل سحب سلاح حزب الله، وتقويض نفوذ إيران في لبنان. ويبدو مجيئه نافراً، لأنه تخلل فترةً أخذ أبناء الشعب اللبناني ينفضُّون عن طوائفهم وزعاماتهم الطائفية، ويلتجئون إلى النضال المطلبي، لتحسين أوضاعهم المعيشية وتغيير الطبقة الحاكمة، وهو ما ظهر جلياً في انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين اكتشفوا زيف وعود زعمائهم، وخداعهم لهم فرفعوا شعار إسقاطهم.
يطرح ظهور بهاء أسئلةً كثيرةً، منها سبب ظهوره المفاجئ هذه المرّة، ليكون مواجهاً ومنافساً لأخيه، وليس بديلاً عنه، وهو ما تأكد حين اشتبك أنصار الرجلين عند ضريح والدهما. كما تأكد قبل ذلك، في أثناء انتخابات مايو/ أيار 2018، حين دعم كلّ أخٍ منافسي مرشحي الأخ الآخر. كما يطرح أسئلة عن داعميه، هل هي السعودية التي خيب سعد آمالها؟ تلك الآمال التي جاءت في خطاب استقالته من الرياض، حين بشَّر بأن أيادي إيران في المنطقة العربية سوف تُقطع، ووعد فيه اللبنانيين بـ "جولات مليئة بالتفاؤل بأن يكون لبنان مستقلاً"، أي بعيداً عن تدخل إيران وسيطرة حزب الله.
بدا واضحاً في الفترة الأخيرة أن الشعب اللبناني، الذي يصارع للبقاء بسبب أزمة اقتصادية خانقة وبسبب اجتياح فيروس كورونا، ليس بحاجةٍ إلى ظهور لاعبٍ جديدٍ على الساحة السياسية في بلاده، يُجيَّش أبناء الطائفة الواحدة ضد بعضهم. وليس بحاجةٍ إلى توتير الأجواء المذهبية لإيجاد توتُّرٍ جديدٍ بين أبناء الطائفتين، السنية والشيعية. ويأتي هذا كله في وقتٍ تسرق فيه المصارف أموال المودعين الصغار، وتحوِّلها إلى الخارج لحساب السياسيين وزعماء الطوائف، وهو ما أدّى إلى تراجع قدرة اللبنانيين الشرائية مع تضاعف سعر صرف الدولار على حساب الليرة اللبنانية. والأهم من ذلك كله أن ظهوره جاء في المرحلة التي خرج فيها الشعب اللبناني بانتفاضةٍ ضد زعمائه من السياسيين التقليديين، وطالب ببناء دولة المواطنة لتكون بديلةً عن دويلات الطوائف والمحاصصة، ما يؤكد أن ثمَّةَ قطعاً مع السلطة، وصل إليه الشعب اللبناني، سيكون عائقاً أمام بهاء لاستخدامه مطيةً للوصول إلى الحكومة.
وظهر أنصاره لدى إحياء ذكرى اغتيال والده، في 14 فبراير/ شباط الماضي، واشتبكوا مع أنصار أخيه بجانب الضريح. وواظب بهاء على استغلال أي وهنٍ يصيب أخاه ليطرح نفسه بديلاً له، وهو الذي شاءت الأقدار استبعاده عن وراثة والده سياسياً، حين فاضلت السعودية بينه وبين أخيه الأصغر سعد، لشغل هذا الموقع، فوقع اختيارها على سعد.
قبل الآن، جرى تداول اسم بهاء في يوليو/ حزيران 2010، حين أطلَّ أول مرةٍ عبر مكتبٍ
يحاول بهاء استخدام انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول مطيةً للوصول إلى غاياته، فتبنّى شعاراتها، من دون أن ينتبه إلى أن هذه الانتفاضة ترفض مبدأ التوريث، ورفعت شعار التخلص من كل الطبقة الحاكمة ومبادئها، فيما هو يتكل على إرث والده، الإرث الذي جاء مدّعياً محاولة إحيائه للوصول إلى الحكم. ولاحظ ناشطو الانتفاضة أن خطته تتعارض مع شعارات انتفاضتهم الرافضة وعود السياسيين التي تفتقر لخطط واضحة، وهو ما ينطبق عليه، كونه يفتقد لمشروعٍ كهذا ينقذ البلاد من الكارثة التي تعيشها، ومن الانهيار الذي على وشك الوقوع.
ولكن لماذا يبقى لبنان ساحةً لكلِّ من يعنّ على باله لعب دورٍ سياسي، حتى لو لم يكن مقيماً في البلاد، ولا يعرف شيئاً عن زواريبها السياسية؟ كذلك يطرأ سؤال مفاده: لماذا سيبقى لبنان أسيراً لآل الحريري، التي أصابت لبنان، هي وممثلوها، مثل متلازمةٍ مرضيةٍ لا تحل عن البلد السقيم أصلاً؟ هذه العائلة التي وسمت مراحل تاريخه القريب بسماتها، باعتبارها تمثِّل الرأسمال المتوحش، منذ توقيع اتفاق الطائف، سنة 1989. وكان لرفيق الحريري دورٌ في الاتفاق الذي، وعلى الرغم من أنه أنهى الحرب، لكنه لم ينهِ أسبابها؛ إذ كرَّس زعماء المليشيات الطائفية التي كانت تتصارع خلال الحرب زعماء في فترة السلم. وكرّس أيضاً قوتهم العدوانية التي صادرت أصوات أبناء طوائفهم وحرمتهم من أي دور سياسي أو اقتصادي مستقلٍّ عنهم. وعلى الرغم من أنها لم تقدِّم للبنان أي مشروع نهوضٍ اقتصادي، منع القمع الذي مارسته الطبقة التي تمثلها العائلة على المواطنين، وسياسة المحاصصة الاقتصادية والإعلامية التي اتبعتها، ظهور أي مشروع وطنيٍّ واجتماعيٍّ جامعٍ، يكون بديلاً عن المشاريع التي خرَّبت اقتصاده، والتي تعد نسخةً من التي كانت متَّبعةً قبل الحرب، والتي أفقَرت جزءاً كبيراً من أبنائه، وأوصلت البلاد إلى الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنةً.
أما اللبنانيون الذين ما زالوا يتندّرون بعبارة بهاء "يا أيها القوم"، حين ناداهم بها في أثناء الصلاة
يطرح ظهور بهاء أسئلةً كثيرةً، منها سبب ظهوره المفاجئ هذه المرّة، ليكون مواجهاً ومنافساً لأخيه، وليس بديلاً عنه، وهو ما تأكد حين اشتبك أنصار الرجلين عند ضريح والدهما. كما تأكد قبل ذلك، في أثناء انتخابات مايو/ أيار 2018، حين دعم كلّ أخٍ منافسي مرشحي الأخ الآخر. كما يطرح أسئلة عن داعميه، هل هي السعودية التي خيب سعد آمالها؟ تلك الآمال التي جاءت في خطاب استقالته من الرياض، حين بشَّر بأن أيادي إيران في المنطقة العربية سوف تُقطع، ووعد فيه اللبنانيين بـ "جولات مليئة بالتفاؤل بأن يكون لبنان مستقلاً"، أي بعيداً عن تدخل إيران وسيطرة حزب الله.
بدا واضحاً في الفترة الأخيرة أن الشعب اللبناني، الذي يصارع للبقاء بسبب أزمة اقتصادية خانقة وبسبب اجتياح فيروس كورونا، ليس بحاجةٍ إلى ظهور لاعبٍ جديدٍ على الساحة السياسية في بلاده، يُجيَّش أبناء الطائفة الواحدة ضد بعضهم. وليس بحاجةٍ إلى توتير الأجواء المذهبية لإيجاد توتُّرٍ جديدٍ بين أبناء الطائفتين، السنية والشيعية. ويأتي هذا كله في وقتٍ تسرق فيه المصارف أموال المودعين الصغار، وتحوِّلها إلى الخارج لحساب السياسيين وزعماء الطوائف، وهو ما أدّى إلى تراجع قدرة اللبنانيين الشرائية مع تضاعف سعر صرف الدولار على حساب الليرة اللبنانية. والأهم من ذلك كله أن ظهوره جاء في المرحلة التي خرج فيها الشعب اللبناني بانتفاضةٍ ضد زعمائه من السياسيين التقليديين، وطالب ببناء دولة المواطنة لتكون بديلةً عن دويلات الطوائف والمحاصصة، ما يؤكد أن ثمَّةَ قطعاً مع السلطة، وصل إليه الشعب اللبناني، سيكون عائقاً أمام بهاء لاستخدامه مطيةً للوصول إلى الحكومة.