07 نوفمبر 2024
لبنان.. لا شيء يعلو ديناميكية السلطة الطائفية
الانتخابات النيابية اللبنانية يُفترض أن تحصل في مايو/ أيار المقبل، بعد ما يقارب العشر سنوات على استيلاء تلك الطبقة من الزعماء على البرلمان اللبناني، وتحكّمهم بمداخل حياتنا ومخارجها. نعلم فقط أنهم مرشحون، وبقانون انتخابي ضامن لعودتهم. ما هو برنامجهم؟ وعودهم، ولو الكاذبة؟ حلولهم لمشكلاتنا اليومية وقضايانا الكبرى؟ بدءاً من النفايات.. وانتهاء بالسيادة الوطنية؟ يغيب عن ذهنهم هذا كله، بل يغيب أيضاً موضوع تحالفاتهم في ما بينهم. فالناخب الراغب بالاقتراع، ولو على القالب الطائفي - المذهبي المصْبوب، لا يعرف أي زعيم سيتحالف مع أي زعيم آخر؟ أي زعيم طائفةٍ مع أي زعيم طائفةٍ أخرى؟ "بالقطعة" يجيبون، أي أن فلاناً وعلاناً من بينهم سيلتقيان في صيدا ويختلفان في زحلة، "حسب الأصوات المجيّرة"، حسب الفائدة "المشتركة" من الأصوات. غياب البرامج، أو طغيان "اتفاق الضرورة" في ما بينهم، يلخص منحى الحملة الانتخابية الجارية: حيث يغيب الصراع المطلوب، أي بين مجتمع أو مجتمع مدني، يطالب بالإصلاح، بأقل تقدير، وبين سلطةٍ انتهكت كل حقوقه، من المدَنية إلى الحياتية إلى المصيرية. هذا صراعٌ لم تأتِ ساعته بعد، على ما يبدو. لم تولد، حتى الآن، أية ديناميكية خاصة بهذا المجتمع، يعوَّل عليها، ليس لتغيير جذري، إنما لوقف نزيف الفساد وانعدام الضمير العام... وقف موتنا المعنوي والفيزيائي، البطيء
والسريع. وهذا غير حاصلٍ على الإطلاق، لأن الصراع الوحيد خالق هذه الديناميكيات هو بين أصحاب السلطة، حول الغنيمة، حول الحصّة. من هنا تفهم أن "البرنامج" الوحيد الذي يحملونه يدور فقط حول "حقوق الطوائف"، والتي لا معنى لها، إلا إذا كان هو، الزعيم الطائفي، الممثّل الأقوى لها، من بين ممثلين آخرين للطائفة نفسها، ومن بين المنافسين من الطوائف - المذاهب الأخرى.
الهمْروجة التي حصلت أخيراً في لبنان كانت بهذه النكهة الخاصة. جبران باسيل، زعيم مسيحي، صعد على أكتاف "حقوق المسيحيين"، يلتقي بناخبيه، يحمّسهم بخطاب "حقوق الطائفة" التي أكلها المسلمون، ومن بينهم زعيم شيعي حاكِم منذ ثلاثة عقود، نبيه برّي، صعد هو الآخر على السلك الطائفي نفسه. ينهال باسيل على الأخير بشتيمةٍ بائنةٍ وبتهديدٍ يوازيها عنفاً، بأن "يكسّر يديه". لماذا الشتيمة لا الأرقام؟ أو البرنامج؟ لأن لا أرقام ولا برامج، ولا من يحزنون؛ فقط تجييش طائفي حول "الحقوق المسلوبة". والانصهار التام بين تلك الحقوق و"الزعيم". ولماذا علناً؟ لأن المطلوب أن يكون هناك مسرح لهذا التناتش الطائفي، وإلا ما كان حاصلاً. ولا مسرح أفضل من الواسع العام، المذاع على الناس، البالغ الآذان والأنوف. والرسالة وصلت إلى برّي، فكانت استجابته السريعة، عبر جماهيره الجوالة، في الشارع، بحرق الأطر البلاستيكية والنفايات، بقطع الطرقات، بالمسيرات الصاخبة على الموتوسيكلات المحمّلة بأعلام "أمل"، بتمزيق صور رئيس الجمهورية، ببلوغ مناطق مسيحية "محظورة"، رشقها بالحجارة والرصاص.. وبفنون الهجاء والتحقير والسخرية من خلق الله (من قصر قامة باسيل) والنيْل من شرف نساء العائلة في مواقع التواصل، أرقى المنابر.. تلك هي الديناميكية التي تكلمنا عنها آنفاً. "الشتيمة" والردّ عليها أدخلا البلاد، للمرة الألف، في هواجس متجدّدة، شلّت الحركة، أرعبت الناس، أوقفتهم على الطرقات، ضربت مخيلتهم بهلوسات الحرب الأهلية، غير المنسْية.. وصار الإعلام بصدد "مقدّمات" هذه الحرب. والأقل طائفيةً أو مذهبيةً من بينهم، لم يتمكّن من الفرز بين صراعين: الأول حيّ، يدور بين أصحاب السلطة، والثاني مدفون، بينهم وبين المجتمع.
في حالة برّي، الجماهير الصاخبة سجلت بيعتها، ولم تقصّر في "تفهيمنا" ذلك. بفزعتها ثأراً لزعيمها المقدس، بدت هذه الجماهير متراصّة، عازمة، مشدودة العصب الطائفي، منظّمة أشد تنظيم (على الرغم من تأكيد قادتها على "عفويتها"). وبهذا، حققت المبتغى من "البرنامج" الانتخابي لزعيمها. أما جبران باسيل، الخصم، الذي فشل في دورتين انتخابيتين سابقتين بالحصول على مقعد نيابي، فقد أثمر "برنامجه" القائم على الحشد والحشد المضاد.. كانت السعادة تفيض عن عينيه، وهو يجول في المركز (ميرنا الشالوحي) الذي تعرّض لإطلاق النار، بالجماهير التي هرعت للدفاع عنه بروحها ودمها، ومن بينها أنصار أحزاب مسيحية منافسة.. "نقَشَت" مع باسيل! نجح في "برنامجه".
من الآن، وحتى إجراء الانتخابات النيابية، سوف يسجل المسرح اللبناني فصولاً مشابهة من الصراع. كلها زوبعات، كلها خاطفة، كلها تنتهي بتبويس لحى. ليبقى المهم: كيفية توزيع الحصص بين أرباب السلطة. هذه المرة، إسرائيل أنقذت الموقف. هدّدتنا مجدّداً، أطلقت العنان لسرقة نفطنا، فقدّمت بحنكةٍ غير مقصودة، الكلمة السحرية التي سوف تنهي هذا الفصل. فبذريعة التهديدات، توقف ضجيج الشارع، إلا من زحمته المعهودة. وأُعلن عن اجتماع رئيس الجمهورية، حمي باسيل، بنبيه برّي. والباقي على الطريق.
يبقى أن باسيل "لم يقعد عاقل"، كما يقولون. بعد التهدئة كان له تصريحٌ في مجلة لبنانية (ماغازين) إنه متفق مع حزب الله بشأن "القضايا الإستراتيجية"، لكنه يختلف معه حول خياراته "التي لا تخدم مصالح الدولة اللبنانية". هل يلعب باسيل بالنار مع حليفه "الإستراتيجي"؟ هل يريد إبعاده عن برّي؟ هل يبْتزه، صراحةً، لنيل المزيد من "الحقوق"،
مستنداً إلى مناخ دولي هاجم عليه؟ وهل هذا اللعب مقدمة لفصل آخر على المسرح الانتخابي التعبوي، سوف نحتاج إلى فكّ ألغازه؟ كلها أسئلةٌ تؤكد أن عشية تغيير مطلوب في لبنان المنهار، عبر انتخابات ديموقراطية، لا يدور الصراع إلا بين أقطاب الطوائف، المسؤولين عن هذا الانهيار، وخلفهم جماهير محبَّة، تغذي بعضها بعضاً بايمانها العصّبي والعصبَوي. لم يتركوا للمجتمع المدني شيئاً، حتى الفُتات؛ مجتمع مدني رخو، مختَرق، لا يخلق حدثاً ولا فصلاً، موزَّع، مقسَّم بين "إيغو" هذا و"إيغو" ذاك، لا تعرف إلا العموميات عن برامجه، والقليل عن تفاعلات أطرافه وائتلافاته؛ كأن الانتخابات التي يقول الناطقون به إنها "فرصة" لتغيير السلطة، أو على الأقل اختراقها، هي فعلاً عمل هزلي، غير جدي...
ملاحظة وسؤال. الملاحظة: لم يسْه عن بال أحد مسؤولي "أمل" أن الشتيمة لو أُطلقت في جلسة مغلقة، بحضور ثلاثة أو أربعة أشخاص مؤتمَنين، لكانت مرّت بسلام. أما أن تُلفظ بحضور حشد انتخابي موسّع، ويتقصّد صاحبها إذاعتها، فهذا عظيمٌ في هوله. لأنه يخرج الشرف من الكواليس، حيث كل شيء مسموح، إلى العلن، حيث المطلوب الإسراف في المواعظ... تلك هي الأخلاق السلطانية المطلوبة. أما السؤال: من هم هؤلاء الرجال الجائلون بالموتوسيكلات ثأراً وغضباً وانفلاتاً؟ بماذا يشتغلون في النهار؟ كيف يكسبون عيشهم؟ إلى أية شريحةٍ طبقيةٍ ينتمون؟ أي تعليم حصّلوا؟ أي ترفيه؟ ما هي أعمارهم؟ ما هو مستقبلهم؟ كيف ينتظمون؟ وهل يكافأون؟ وبماذا؟ هل هم مثل الشاب الطرابلسي، فادي ضاحي، الذي تفرَّد عن غيره من أبناء مدينته، بأن رفع صورة نبيه برّي على الطريق مذيّلة بكلمة "الرئيس برّي خط أحمر"؟ وعندما سأله صحافي عن سرّ حبه نبيه برّي، أجاب بأن الزعيم البرلماني أخرجه من السجن العام الماضي، وكان موقوفاً بسبب مشاركته في الاشتباكات بين منطقته، باب التبانة، السنية، ومنطقة بعل محسن، العلوية؟
الهمْروجة التي حصلت أخيراً في لبنان كانت بهذه النكهة الخاصة. جبران باسيل، زعيم مسيحي، صعد على أكتاف "حقوق المسيحيين"، يلتقي بناخبيه، يحمّسهم بخطاب "حقوق الطائفة" التي أكلها المسلمون، ومن بينهم زعيم شيعي حاكِم منذ ثلاثة عقود، نبيه برّي، صعد هو الآخر على السلك الطائفي نفسه. ينهال باسيل على الأخير بشتيمةٍ بائنةٍ وبتهديدٍ يوازيها عنفاً، بأن "يكسّر يديه". لماذا الشتيمة لا الأرقام؟ أو البرنامج؟ لأن لا أرقام ولا برامج، ولا من يحزنون؛ فقط تجييش طائفي حول "الحقوق المسلوبة". والانصهار التام بين تلك الحقوق و"الزعيم". ولماذا علناً؟ لأن المطلوب أن يكون هناك مسرح لهذا التناتش الطائفي، وإلا ما كان حاصلاً. ولا مسرح أفضل من الواسع العام، المذاع على الناس، البالغ الآذان والأنوف. والرسالة وصلت إلى برّي، فكانت استجابته السريعة، عبر جماهيره الجوالة، في الشارع، بحرق الأطر البلاستيكية والنفايات، بقطع الطرقات، بالمسيرات الصاخبة على الموتوسيكلات المحمّلة بأعلام "أمل"، بتمزيق صور رئيس الجمهورية، ببلوغ مناطق مسيحية "محظورة"، رشقها بالحجارة والرصاص.. وبفنون الهجاء والتحقير والسخرية من خلق الله (من قصر قامة باسيل) والنيْل من شرف نساء العائلة في مواقع التواصل، أرقى المنابر.. تلك هي الديناميكية التي تكلمنا عنها آنفاً. "الشتيمة" والردّ عليها أدخلا البلاد، للمرة الألف، في هواجس متجدّدة، شلّت الحركة، أرعبت الناس، أوقفتهم على الطرقات، ضربت مخيلتهم بهلوسات الحرب الأهلية، غير المنسْية.. وصار الإعلام بصدد "مقدّمات" هذه الحرب. والأقل طائفيةً أو مذهبيةً من بينهم، لم يتمكّن من الفرز بين صراعين: الأول حيّ، يدور بين أصحاب السلطة، والثاني مدفون، بينهم وبين المجتمع.
في حالة برّي، الجماهير الصاخبة سجلت بيعتها، ولم تقصّر في "تفهيمنا" ذلك. بفزعتها ثأراً لزعيمها المقدس، بدت هذه الجماهير متراصّة، عازمة، مشدودة العصب الطائفي، منظّمة أشد تنظيم (على الرغم من تأكيد قادتها على "عفويتها"). وبهذا، حققت المبتغى من "البرنامج" الانتخابي لزعيمها. أما جبران باسيل، الخصم، الذي فشل في دورتين انتخابيتين سابقتين بالحصول على مقعد نيابي، فقد أثمر "برنامجه" القائم على الحشد والحشد المضاد.. كانت السعادة تفيض عن عينيه، وهو يجول في المركز (ميرنا الشالوحي) الذي تعرّض لإطلاق النار، بالجماهير التي هرعت للدفاع عنه بروحها ودمها، ومن بينها أنصار أحزاب مسيحية منافسة.. "نقَشَت" مع باسيل! نجح في "برنامجه".
من الآن، وحتى إجراء الانتخابات النيابية، سوف يسجل المسرح اللبناني فصولاً مشابهة من الصراع. كلها زوبعات، كلها خاطفة، كلها تنتهي بتبويس لحى. ليبقى المهم: كيفية توزيع الحصص بين أرباب السلطة. هذه المرة، إسرائيل أنقذت الموقف. هدّدتنا مجدّداً، أطلقت العنان لسرقة نفطنا، فقدّمت بحنكةٍ غير مقصودة، الكلمة السحرية التي سوف تنهي هذا الفصل. فبذريعة التهديدات، توقف ضجيج الشارع، إلا من زحمته المعهودة. وأُعلن عن اجتماع رئيس الجمهورية، حمي باسيل، بنبيه برّي. والباقي على الطريق.
يبقى أن باسيل "لم يقعد عاقل"، كما يقولون. بعد التهدئة كان له تصريحٌ في مجلة لبنانية (ماغازين) إنه متفق مع حزب الله بشأن "القضايا الإستراتيجية"، لكنه يختلف معه حول خياراته "التي لا تخدم مصالح الدولة اللبنانية". هل يلعب باسيل بالنار مع حليفه "الإستراتيجي"؟ هل يريد إبعاده عن برّي؟ هل يبْتزه، صراحةً، لنيل المزيد من "الحقوق"،
ملاحظة وسؤال. الملاحظة: لم يسْه عن بال أحد مسؤولي "أمل" أن الشتيمة لو أُطلقت في جلسة مغلقة، بحضور ثلاثة أو أربعة أشخاص مؤتمَنين، لكانت مرّت بسلام. أما أن تُلفظ بحضور حشد انتخابي موسّع، ويتقصّد صاحبها إذاعتها، فهذا عظيمٌ في هوله. لأنه يخرج الشرف من الكواليس، حيث كل شيء مسموح، إلى العلن، حيث المطلوب الإسراف في المواعظ... تلك هي الأخلاق السلطانية المطلوبة. أما السؤال: من هم هؤلاء الرجال الجائلون بالموتوسيكلات ثأراً وغضباً وانفلاتاً؟ بماذا يشتغلون في النهار؟ كيف يكسبون عيشهم؟ إلى أية شريحةٍ طبقيةٍ ينتمون؟ أي تعليم حصّلوا؟ أي ترفيه؟ ما هي أعمارهم؟ ما هو مستقبلهم؟ كيف ينتظمون؟ وهل يكافأون؟ وبماذا؟ هل هم مثل الشاب الطرابلسي، فادي ضاحي، الذي تفرَّد عن غيره من أبناء مدينته، بأن رفع صورة نبيه برّي على الطريق مذيّلة بكلمة "الرئيس برّي خط أحمر"؟ وعندما سأله صحافي عن سرّ حبه نبيه برّي، أجاب بأن الزعيم البرلماني أخرجه من السجن العام الماضي، وكان موقوفاً بسبب مشاركته في الاشتباكات بين منطقته، باب التبانة، السنية، ومنطقة بعل محسن، العلوية؟