لم تفض قمة إسطنبول حول سورية، التي جمعت زعماء تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، أول من أمس، إلى نتائج من شأنها إحداث اختراقات سياسية مهمة تُعجل بالحل السياسي، في ظل سعي غربي واضح للوقوف أمام محاولات روسية حثيثة لفرض رؤية ترسخ مصالحها في شرقي المتوسط، ما يمنحها أوراق قوة في العديد من الملفات الإقليمية والدولية الأخرى.
وحاول كل من رؤساء تركيا رجب طيب أردوغان، وروسيا فلاديمير بوتين، وفرنسا إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إخفاء الجانب الأكبر من خلافاتهم حول مستقبل سورية، وراء بيان ختامي كان من الواضح أنه أرضى الأطراف المجتمعة، من دون أن يقدم إجابات شافية حول العديد من القضايا الأساسية، ما خلا التأكيد على ضرورة تشكيل لجنة دستورية مشتركة بين النظام والمعارضة. وحمل البيان الكثير من العبارات الإنشائية التي اعتاد السوريون سماعها على مدى سنوات، ما يؤكد التباين الكبير في الرؤى بين الروس والمجتمع الدولي الذي يرفض المخطط الروسي القاضي بعودة اللاجئين السوريين والبدء في إعمار ما هدمته قوات النظام من مدن وأحياء ومنشآت.
وقد أكد القادة، في إعلان إسطنبول، "تعهداتهم القوية حيال سيادة واستقلال ووحدة أراضي سورية، والتزامهم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة" في هذا الصدد، داعين إلى تأسيس لجنة في جنيف لصياغة دستور سوري، بهدف تحقيق الإصلاح الدستوري وتهيئة الأرضية لانتخابات نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة على أن تلتئم اللجنة قبل نهاية العام الحالي. وشددوا على "الحاجة لتهيئة الظروف المناسبة في عموم سورية لعودة النازحين واللاجئين إلى أماكنهم الأصلية بشكل آمن وطوعي، وحماية العائدين من الزج بهم في صراع مسلح، ومن الاضطهاد السياسي أو الاعتقال التعسفي، وتوفير البنية التحتية الإنسانية، بما في ذلك الماء والكهرباء والخدمات الصحية والاجتماعية". وأكد القادة أيضاً إيمانهم القوي بعدم إمكانية الحل العسكري للنزاع المتواصل في سورية، وأن الحل ممكن فقط عبر مسار سياسي قائم على المفاوضات بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.
وجاء في الإعلان أن القادة شددوا على تصميمهم على ما يتعلق بمكافحة الإرهاب بهدف القضاء على كافة التنظيمات والجماعات الإرهابية، بما فيها "داعش" و"جبهة النصرة" و"القاعدة" المصنفة إرهابية من قبل مجلس الأمن الدولي، وكافة الأفراد والجماعات والكيانات المرتبطة بتنظيم "داعش". وكان من الواضح أن البيان الختامي حاول إرضاء الأطراف الأربعة الباحثة عن مصالحها في شرقي المتوسط، لكن تصريحات الرؤساء في المؤتمر الصحافي أكدت وجود تباين كبير بالرؤى، خصوصاً لجهة الحل السياسي الشامل. ولم تأت القمة بجديد على صعيد وضع خارطة طريق واضحة لحل سياسي في سورية، خصوصاً أن صراع المصالح لم يصل إلى نهايته بعد في ظل سعي أميركي واضح للحيلولة دون فرض رؤية روسية ترسخ مصالح موسكو في شرقي المتوسط من خلال الدفع نحو تثبيت بشار الأسد ونظامه في السلطة. والتقت مصالح الدول الأربع عند عدة نقاط واختلفت عند نقاط أخرى، لكن من الواضح أنه لم يطرأ جديد من شأنه تعجيل حسم الخيار السياسي في مدى منظور. وحققت أنقرة ما تصبو إليه من ترسيخ اتفاق وقف إطلاق النار في شمال غربي سورية، وهو ما يجنبها تبعات أي عمل عسكري واسع النطاق، خصوصاً على الصعيد الإنساني، إذ كان من المتوقع ولادة أزمات كبرى في منطقة تضم ملايين المدنيين. وجاء تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار متماشياً مع رغبة باريس وبرلين في منع أي موجات لاجئين جديدة من شأنها خلق أزمات داخل دول الاتحاد الأوروبي، التي لم يعد بإمكانها تحمّل لاجئين جدد من سورية.
كما عكست القمة الرباعية الخلاف الكبير بين روسيا من جهة، وبين مختلف الفرقاء الإقليميين والدوليين من جهة أخرى، على صعيدي إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والبدء في إعمار ما تهدم. ودعا الرئيس الروسي زعماء تركيا وألمانيا وفرنسا إلى دعم فكرة تنظيم مؤتمر دولي حول اللاجئين السوريين، محاولاً الدفاع عن النظام، زاعماً أن الأخير قدم ضمانات راسخة بعدم ممارسة التمييز ضد اللاجئين العائدين، وأنه جاهز لاستيعاب مليون ونصف المليون لاجئ. لكن المسعى الروسي لا يجد قبولاً من المجتمع الدولي الساعي إلى تحقيق حل سياسي يضمن استقراراً نسبياً قبل السماح بعودة من يرغب من اللاجئين من دول الجوار والاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن النظام يمارس شتى أنواع الانتهاكات بحق العائدين إلى سورية. كما أن الموافقة على عودة اللاجئين هي تمهيد للموافقة على رؤية روسية شاملة للحل، يقع في جوهرها إعادة تأهيل النظام، وهو ما يرفضه الغرب الذي يصر على انتقال سياسي جاد وفق قرارات الشرعية الدولية قبل البدء بإعادة الإعمار. وحاول بوتين الإبقاء على دور إيراني يتضاءل في الملف السوري من خلال تأكيده على أنه "لا تمكن معالجة مسألة إطلاق الحوار الداخلي في سورية من دون مشاركة إيران، وإجراء مشاورات معها أثناء تشكيل اللجنة الدستورية". لكن من الواضح أن هناك رفضاً غربياً كبيراً لأي دور إيراني محتمل في الملف السوري.
ولم تكن المعارضة السورية تعول على قمة إسطنبول لجهة دفع جهود التسوية السياسية خطوات إلى الأمام، إذ تبيّن أن موسكو ليست بوارد تغيير استراتيجيتها حيال الملف السوري في الوقت الراهن. وقال رئيس الدائرة الإعلامية في "الائتلاف الوطني السوري"، أحمد رمضان، لـ"العربي الجديد"، "لم أشعر أن القمة أحدثت اختراقاً"، مضيفاً "لكن كان هناك ثلاث دول، هي تركيا وألمانيا وفرنسا، تتكلم بلغة واحدة، وهذا شيء إيجابي وخطوة متقدمة، في حين بقيت روسيا معزولة". وأشار إلى أن القمة أكدت أن بوتين لا يعتزم تقديم تنازلات أو تغيير الموقف الروسي حيال سورية، بانتظار القمة الروسية الأميركية المقبلة. وأكد رمضان أن على الجانب الروسي إعطاء النظام الضوء الأخضر للانخراط في مفاوضات جادة، ووقف الانتهاكات الإيرانية المتكررة في المنطقة معزولة السلاح الثقيل، لتأكيد جديته بالتوصل لحل سياسي حقيقي في سورية وفق قرارات الشرعية الدولية.
ورأى الباحث في مركز "جسور" للدراسات، عبد الوهاب العاصي، أن البيان الختامي بقمة إسطنبول "خرج ببنود فضفاضة لكنها تعكس تفاهماً مبدئياً على إطار الحل في سورية بين الدول المشاركة"، معتبراً، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه أشبه ما يكون بـ"إعلان إسطنبول حول سورية". واعتبر أن بنود "إعلان إسطنبول حول سورية" تؤكد احتمال نشوء مسار جديد للحل، عبر تشكيل مجموعة اتصال تضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومجموعة دول أستانة، وهو مقترح سابق كانت قد قدمته فرنسا إلى روسيا والولايات المتحدة وبعض أعضاء مجلس الأمن لكنه لم يلقَ استجابة. وأشار إلى أن هذا الاحتمال يأتي من دعوة الدول المشاركة في القمة لدعم الحل السياسي بصيغة عامة دون الإشارة لمسار محدد، و"ربّما يكون الوقت ملائماً أمام خلق مثل هذا المسار مع انتهاء مهمة المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا". وكان لافتاً، وفق العاصي، أن الدول المشاركة في اللقاء "تريد لشكل الحل في سورية أن ينطلق من الحفاظ على المخرجات الحالية، سواء تلك التي توصل إليها مسار أستانة أو المسار الأممي"، مضيفاً "لكن تعليقات الزعماء كانت تشير إلى رغبة في توسيع الآليات وديناميكيات العمل على الأرض من أجل تحقيق تقدم يحافظ على الاستقرار والأمن ومصالح الجميع. أعتقد أن استكمال جولات إعلان إسطنبول مثلما تمت الإشارة إليه من قبل الزعماء، يحتاج إلى التقاء الدول المشاركة عند صيغة مناسبة غير فضفاضة تأخذ بعين الاعتبار أولويات كل طرف".