لا بد من ريغا وإن طال السفر

25 مارس 2015

احتفال بافتتاح مهرجان مسرحي في ريغا (18يناير/2015/Getty)

+ الخط -

أعرف عن ريغا أنها مدينة على شاطئ البلطيق، هي عاصمة جمهورية صغيرة من تركة الاتحاد السوفياتي، اسمها لاتفيا، مواطنوها لا يتعدون المليونين، يعيشون على أرض مساحتها 64 كيلو مترا مربعا، يتكلمون لغة نادرة، لا يعرفها سوى سكانها. ريغا مدينة ثقافة وفنون وموسيقى، هكذا يقال عنها، آخر مهرجان موسيقي عالمي احتضنته كان عن موسيقى الجاز، لم نسمع عنها أنها مدينة سياسة، تكفيها همومها التي عاشتها قرونا، ويكفيها أيضا، على الرغم من همومها، نزوع أبنائها الدائم للمرح والمتعة، ما جعل السياح يحجون إليها زرافات ووحدانا.

قيل إن ريغا اهتمت بقضيتنا العراقية التي استعصت على كل حل، وتكفلت بإقامة "منصة عالمية تتبنى إنهاء الأزمة العراقية بطريقة سلمية، خالية من رهانات السلاح والدماء"، جاء اهتمامها بنا على نحو فاجأنا، كما فاجأ غيرنا، قيل إن ذلك تم بفضل جهود منظمة، اسمها "سفراء من أجل السلام" تأسست وسجلت في لاتفيا، لم نسمع بها من قبل، كما لم يسمع بها غوغل، وقد رفعت المنظمة شعار "الذهاب إلى السلام والمصالحة في العراق"، ولأن الطريق يبدأ من ريغا، كما يقول منظمو الندوة، فلا بد، إذن، من ريغا، وإن طال السفر.

هكذا انعقد مؤتمر ريغا، بمشاركة عراقيين وأصدقاء للعراق، معارضين للعملية السياسية التي صنعها الأميركيون، ونحمد لهم طرحهم وجهات نظر تصب في مصلحة "بناء عراق مستقر وآمن، والعمل على زيادة الوعي، وتيسير المناقشات بشأن وضع العراق الحالي، ومعالجة المفاهيم الخاطئة في السياسة الداخلية العراقية، وكيفية التعامل مع داعش"، وقد طرحت المنظمة "أن تكون وسيطاً نزيهاً، ومصدراً موثوقاً للمعلومات عن العراق"، حيث تأتي معلوماتها، كما قالت، "من مصادر داخلية وخارجية موثوقة"!

لم يلق المؤتمر صدى لدى أحد، خصوصاً الذين استهدفهم، ووجه خطابه لهم، وهم، بحسب جمال خميس رئيس المنظمة، "صناع السياسات في العالم الذين توجه إليهم المؤتمر، لإقناعهم بأن السياسات التي اتبعوها، ويواصلون اتباعها تشوبها أخطاء جسيمة، وهي تزيد مخاطر الإرهاب بدل الحد منه"، أيضا لم نلحظ للمؤتمر صدى في الصحف ومنابر الإعلام العالمية، وحتى في صحف لاتفيا نفسها، (نحن لا نعلم إذا كانت هناك ثمة صحف تصدر في لاتفيا، باستثناء الصحيفة الصغيرة التي تحوي عادة بيانات الحكومة وبرامجها).

لكن، الحق يقال، ظهر خبر انعقاد المؤتمر وما أنجزه على مواقع إلكترونية عراقية، حيث ردت بضاعتنا إلينا، على أكمل وجه وأتمه!

هنا، دعونا نتساءل فقط، ولا نسيء الظن، عما يدفعنا للبحث عن مواطن بكر، وبعيدة عنا جغرافيا، وحتى تاريخيا، لعقد مؤتمرات وندوات عن قضيتنا، من دون أن ندرس النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها، والأصداء التي تتركها لمصلحة بلدنا؟ يقول منظمو المؤتمر إنهم اختاروا لاتفيا لكونها "دولة محايدة"، محايدة بين من ومن؟ هي عضو في حلف شمال الأطلسي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أكثر من ذلك، ساهمت في عمليات عسكرية في العراق بعد الغزو، بين عامي 2005 و2006.

لماذا لم يفكر هؤلاء الناشطون بتوفير الجهد والمال لتنشيط العمل في مواطن أكثر فاعلية، وتأثيراً ونفوذا؟ ألم يكن الأجدى تحويل نفقات المؤتمر لشراء الخبز أو الدواء للنازحين والمهجرين، أو لتوفير صفوف دراسية لأطفالهم؟ وفي أضعف الإيمان، لماذا لم يفكر الناشطون الذين تجشموا عناء السفر إلى ريغا، في أن يختصروا طريقهم، ويزوروا خيام النازحين، ولو لساعات، لإدراك حجم المعاناة التي يعيشها هؤلاء، كما فعل غيرهم من ناشطي بلدان أخرى؟

المصيبة أننا أمام نمط من الناشطين، وليس كلهم طبعا، همّهم البحث عن دور في مؤتمرات مصنعة، أو مهرجانات خطابية، لا تغني ولا تسمن سوى أصحابها الذين اكتسبوا خبرة عريضة في ترويج خدماتهم، مادام هناك مانحون يمكنهم تغطية النفقات، لغايات بعضها بريء، وبعضها مشكوك فيه، وكما تنتج الحروب أثرياءها والمنتفعين منها، فإنها تنتج أيضا ناشطيها السياسيين والإعلاميين من الفصيلة التي نتحدث عنها، وقد سمع العراقيون على امتداد السنوات التي مرت على غزو بلدهم أخبار مؤتمرات ومهرجانات خطابة كثيرة، لاكت قضيتهم، في أكثر من عاصمة ومنتجع، لكنها لم تزد عن أن تكون "حوار طرشان"، ولم تصل أصوات خطبائها إلى أبعد من الصالات الفارهة التي عقدت فيها.

وقريبا من بغداد، بعيداً عن ريغا، فإن السنوات العجاف التي عاشها العراقيون علمتهم أن لا يكونوا في وارد انتظار اجتراح حلول لمعاناتهم، عبر مؤتمرات كهذه، لكن حسن ظنهم يتغلب عليهم، فلا يملكون سوى أن يحمدوا كل جهد من أجل قضيتهم. وإذا كان "الذهاب إلى السلام والمصالحة في العراق"، يبدأ من منتجعات ريغا، فلا بد، إذن، من ريغا، وإن طال السفر.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"