تبدو المصارف التجارية الكبرى بالدول الغربية في وضع لا تحسد عليه وهي تواجه خيارات صعبة، توازن فيها بين مصالحها التجارية في الصين والتقيد بالحظر المالي الأميركي. إذ بات قرار الحظر المالي الأميركي على الشخصيات الصينية وبعض الشركات جاهزاً وتم تمريره من الكونغرس إلى البيت الأبيض وينتظر فقط توقيع الرئيس دونالد ترامب. وهو بالتالي على وشك أن يصدر في أية لحظة. ويحرم مشروع قانون العقوبات الجديد بعض المصارف الصينية والشخصيات التي دعمت القانون الأمني في هونغ كونغ، من استخدام الدولار في التسويات الدولية وحظرها من استخدام نظام التسويات العالمية "سويفت"، وهو النظام العالمي الذي تستخدمه المصارف والشركات العالمية في المتاجرة وصفقات التسوية التجارية.
كما يدرس الكونغرس الأميركي إصدار عقوبات أخرى بفك الربط بين عملة هونغ كونغ، الذي يطلق عليه "دولار هونغ كونغ" والدولار الأميركي، ولكنه لا يزال قيد الدراسة في ردهات وزارة الخارجية الأميركية.
ورغم أن قوانين الحظر الأميركي، ليست قوانين دولية ملزمة للمصارف والشركات العالمية التقيد بها، إلا أن المصارف التجارية العالمية الكبرى تتخوف من العقوبات الملحقة بالقانون وتنص على حرمان المصارف التي لا تطبق العقوبات الأميركية من المتاجرة في الأسواق الأميركية وعلى رأسها أدوات المال من سندات وأسهم.
وبالتالي فإن العمق التجاري والمالي للسوق الأميركي الذي يقدر حجم القوة الشرائية فيه بحوالى 14 تريليون دولار، وحجم السندات المتداولة بحوالي 35 تريليون دولار يجبر معظم المصارف التجارية الكبرى على تطبيق قوانين الحظر الأميركي.
وفي حال عدم تطبيقها ستتعرض للعقوبات التي تصل في بعض الأحيان إلى مليارات الدولارات، كما حصل خلال السنوات الماضية لبعض المصارف الفرنسية والسويسرية التي خرقت قوانين الحظر المالي الأميركي على إيران والسودان.
و
تحت ظروف جائحة كورونا الحالية التي يعاني منها النظام المصرفي العالمي، تجد المصارف التجارية في أوروبا وأميركا نفسها تحت ظروف قاهرة تجبرها على التقيد بقوانين الحظر الصادرة عن الإدارة الأميركية. وعادة ما تقوم وحدة العقوبات المالية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية بمراقبة تطبيق المصارف العالمية للحظر عبر نافذة شبكة سويفت.
ولكن السؤال الذي يؤرق المصارف الغربية: هو كيف سترد حكومة بكين على عقوبات الحظر المالي في حال توقيعها من قبل الرئيس ترامب؟
حتى الآن تشير الاحتمالات إلى أن الصين لديها ثلاثة خيارات للرد على قانون العقوبات المالية في حال توقيعه من قبل البيت الأبيض.
وهذه الخيارات هي: حرمان المصارف الغربية الكبرى مثل مصرف "أتش أس بي سي" البريطاني و"سيتي بنك" و"غولدمان ساكس" الأميركيين و" دويتشه بنك" الألماني من المتاجرة في البر الصيني.
أما الخيار الثاني فهو استخدام سلاح سندات الخزانة الأميركية التي تملك الصين منها أكثر قليلاً من تريليون دولار، وفق بيانات وزارة الخزانة الأميركية في يونيو/ حزيران الماضي. أما الخيار الثالث فهو التخلي عن استخدام الدولار في التسويات التجارية وتوسيع استخدام اليوان.
ويلاحظ أن الصين اتخذت عدة خطوات في السنوات الأخيرة لتقليل اعتمادها على العملة الأميركية في التجارة مع بعض شركاء التجارة الكبار مثل روسيا.
من بين هذه الخطوات التي اتخذتها بكين صفقات المقايضة بدلاً من التسوية عبر الدولار، ومراكمة الذهب عبر مشتريات متواصلة ومكثفة وإصدار اليوان الرقمي. ولكن تنفيذ مثل هذه التدابير لا يبدو سهلاً لدى الفحص العملي ومعادلات المكاسب والخسائر بالنسبة للصين.
على صعيد المصارف فقد أجبرت بكين حتى الآن بعض المصارف على تأييد قرار القوانين الأمنية على هونغ كونغ، وهي قوانين تقود تدريجياً إلى ضم هونغ كونغ إلى البر الصيني. من بين المصارف التي أجبرتها الصين على تأييد تلك القوانين مصرف " أتش أس بي سي" البريطاني الذي هددته بحرمانه من المتاجرة في البر الصيني.
وأجبرت الصين المصرف البريطاني في شهر مايو/ أيار الماضي على إصدار بيان يدعم فيه القوانين الأمنية التي أعلنتها بكين، وقالت على لسان بعض مسؤوليها إنها ستستبدله في البر الصيني ببنك آخر في أيام معدودة. وربما ستستخدم حكومة بكين نفس الأسلوب مع المصارف التجارية الغربية الكبرى التي لديها مصالح في البر الصيني. ولدى مصرف " أتش أس بي سي" وضعية خاصة، إذ إنه في الواقع بنك صيني من ناحية حجم العمليات التجارية أكثر من أنه بنك بريطاني رغم أن مقره الرئيسي في لندن.
لكن الصين إذا لجأت لمثل ذات التهديد مع المصارف التجارية الأخرى ربما تغادر هذه المصارف جزيرة هونغ كونغ وتفقدها مكانتها كمركز مالي كبير في آسيا. وتعتمد الحكومة الصينية على الجزيرة كمركز مالي حر وعلى المصارف التجارية الكبرى في الحصول على التمويلات وكنافذة على النظام المالي الغربي. وبالتالي إذا حظرتها، فإنها ستقع في شراك العزلة المالية وتحقق بشكل غير مباشر هدف الرئيس ترامب في عزل الحكومة الصينية عن النظام المالي العالمي.
أما بالنسبة للخيار الثاني والخاص ببيع حيازتها من سندات الخزانة الأميركية. صحيح أن لدى الصين حيازات ضخمة من تلك السندات يمكنها استخدامها كسلاح ضد الولايات المتحدة. وقد يقول خبراء إن بيع السندات سيحدث فوضى في سوق السندات الأميركية، إذ إنه سيخفض أسعارها، وبالتالي سيرفع العائد عليها ويؤثر على سعر صرف الدولار.
لكن من الناحية العملية، فإن الصين ستكون من أكبر الخاسرين، إذ أنها لن تجد من يشتري هذه الكميات الضخمة من السندات التي تقدر بأكثر من تريليون دولار غير المصارف الأميركية التي لديها سيولة مالية تقدر بحوالى 3.7 تريليونات دولار وتحظى بدعم المصرف المركزي الأميركي، أي مجلس الاحتياط الفيدرالي.
ومن المتوقع أن تتسبب مثل هذه الخطوة في خسائر ضخمة للبنك المركزي الصيني لأنه سيضطر لبيع سندات الخزانة الأميركية بسعر منخفض جداً وستحصل المصارف الأميركية على أرباح من شرائها، كما ستحصل على مكافآت مالية من مصرف الاحتياط الفيدرالي.
وفي حال تنفيذ الصين لرد مثل هذا، فإنه سيكون في صالح إدارة ترامب التي تضغط على مصرف الاحتياط الفيدرالي على خفض الفائدة تحت الصفر حتى تتمكن من تقليل فاتورة خدمة السندات وتعريض حامليها الكبار لغرامات مالية.
أما على صعيد الخيار الثالث، وهو إيجاد بديل للدولار في التجارة والتسويات المالية، عبر تكثيف استخدام اليوان، فإن العالم لا يزال بعيداً عن التخلي عن الدولار الذي تتزايد حصته في احتياطات البنوك المركزية، وكذا في التسويات التجارية وفي أسواق الصرف مقابل الحصة الضئيلة لليوان الصيني الذي لا يزال مرتبطاً حتى في سعره بالدولار.