تكاد أخبار فيروس كورونا تُسيطر على أرْجاء المشهد الإعلامي، فلا حديثَ إلا عنه وعمّا يحصده من الضحايا. أسفر هذا الحضور المفاجئ عن ظهور معجم متكاملٍ يحيل على هذه العِلّة، يُسمّي عناصرَها ويستعيد أعراضَها وآثارَها. وسرعان ما انبرى بعض المثقفين العرب، على اختلافٍ في المَـشارب، لتحليل تبعاتِها على مفهوم العَولمة وما اعتراه من تحوُّلات.
كان العالَمُ، إلى زمنٍ قريب، "قريةً صغيرةً"، فإذا به يسترجع، فجأةً، مسافاتِه ويُقيم حدودَه وحواجزَه احترازاً من انتقال العدوى من بلد إلى آخر. ثمةَ ضربٌ من الانكفاء يُخيّم على الأقطار، يُقابله نشاطٌ لغوي في الحديث عن المرض.
كما عاد "الإنسان"، دون تحديد لجنسيةٍ أو وطن، إلى صميم التأمل الفلسفي، فَبَدا كائناً ضعيفاً هشّاً، يُواجه قدَرَه إما باستسلامٍ أو بإجراءات "احترازية"، وفي التسمية تأنُّقٌ، حتى يقلّص من هذا الخطر الكاسح الذي بات يهدّد الجميع ويروّع، دون أن يَستثنيَ أحداً، حتى الرؤساء في قلاعهم المنيعَة.
وأمام سطوة هذا "الحدث" الذي مَلأ الدنيا بعدما أعادَ إليها حدودَها، نَشطت الضاد في نقل ما يتّصل به من حديثٍ. وطوّعَتْ مواردَها المعجميّة والمجازية للإحالة على ظاهرةٍ فريدة في تاريخها المعاصر. ظاهرة هي، في الآن ذاته، طبِّية، لا يدرك جزئياتِها العلميّة إلا المُختصّون، وهم إلى الآن عاجزون عن تحديد أعراضِها، ناهيك عن ابتكار لقاحٍ يقضي على الفيروس. وهي اجتماعيّة طَغت على يوميات الناس وأثّرت في مُجمل علاقاتهم، بل وثقافية - لغويّة بعدما غَدَت موضوع تعبير وتفكيرٍ، وربما، في مستقبل قريب، محورَ رواية وشعرٍ. كما نُسجت حوله النُّكات وأثارَت العديد من النقاشات الفقهية كجواز الاحتراز من عدمه وطبيعته الغيبية: أهو عقاب إلهي أم لا، ومن أسئلة السياسيين: أهو مؤامَرةٌ من صنيع المخابرات؟
وفي الأثناء، جَهدت الضاد في الإحالة على حيثيات الوباء، على لسان مُتَكلِّم جَمْع، يعبِّر به وُزَراء صحّة وصحافيون وآباء، وقد تطوَّعوا جميعُهُم لِشَرحه والتحذير منه. وقد ارتأت العربية، من عقودٍ، اقتِراض اللفظ الإنكليزي، ذي الأصل اللاتيني، virus الذي تحوَّل إلى "فَيْروس"، مع إسكان الياء، كأنما لتَجري الكلمةُ على صيغة فَيْعول العريقة، أو "فيروس" دون إسكان الياء تخفيفاً. ويجدر التذكير بأنَّ مجاميع اللغة العربية سبق لها أن اقترحت ترجمةَ هذه الكلمة بـ"حُمَةٌ" وجمعُها "حُمَاتٌ" بمعنى: السمّ الزّعاف ("المعجم الطبيّ الموحد" و"مُعجم حَتّي الطبيّ")، ولكنّها لم تصمد البَتَّة ولم تعلق بذاكرة الناس واستعمالاتهم. كما اقترضت الضاد كلمة "ميكروب"، وكلاهما يُجمع جَمع تأنيث سالمٍ. وأخيراً ظهرَ، وبنسبة أقل الاسم العلمي "كوفيد 19"، ولا سيما في الخطابات الرسميّة أو المتخصّصة.
وما عدا ذلك، عَزَف لسانُنا عن التعريب، فعاد إلى موارده إحياءً لمفردات أصيلة، مثل "جُرثومة"، ذات العراقَة البعيدة، و"عدوى" و"وباء". وشاعت كلها تقريباً بنفس التوارد والمفهومية حتّى في اللهجات المحكيّة. فاليوم، وقد خَرج هذا الفيروس على السيطرة وأصاب مناطقَ متباعدة في الأرض، نَفضت الضاد الغبارَ عن كلماتٍ من مخزونها الثقافي، ومنها: "وباء" (épidémie)، التي كانت تُحيل على ما استشْرى، في العصور الوسطى، من أمراض جارفة كالطاعون والجدريّ وغيرها. استُعملت المفردة في تقارير مُنظمّة الصحة العالمية وشاعت بما فيها من إيحاءات وذكرياتٍ عمرت بها كتب الأدب والرحلة.
ويكفي مثلاً على ذلك ما قاله المؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف (1804-1874)، الذي خَصَّص صفحاتٍ مؤثرة من "إتحاف أهل الزمان" لوصف الوباء الذي اجتاح بَلَدَه سنة 1849 وأودى بحياة الآلاف من ساكنيها. هذا، ونستشفّ لدَيه شيئاً من التحيّر في تسمية الداء، فَأطلق عليه أسماء شتَّى: "ظَهر في المملكة التونسية مَرَضٌ وَبَائيٌّ، يُعَبَّرُ عَنه في أرض الحِجاز بالريح الأصفر. وأصْلُه من أمراض الهند، وعُبِّرَ عنه في بلادنا بالكوليرة. وتُلقّي هذا الاسم من أطبّاء الإفرنج". تضع هذه الفقرة اليدَ على مراوحة الضاد بين الاقتراض والتأثيل في تسمية هذا الوباء، وهي مراوحةٌ مستمرةٌ إلى أيامنا هذه.
وقد تلتجئ العربية إلى تقوية هذا الاسم بما يتناسب من الأوصاف، فتطلق، ضمن التراكيب النعتية، صفات "قاتل"، "كاسح"، "جائح" "متغوّل"...، كما تستنفر سلسلةً من الأفعال، مثل: اجتاح، تفشّى، انتشر وشاع... وكلها من صَميم المجاز وبليغِه. ونجد استخداماتٍ جانبيّة حول سبل الوقاية منه، إذ شاع بالخصوص مفهومُ "الحَجْر الصحيّ"، والذي ظهر مؤَخّراً بعد أن كان الكُتّاب العرب، في القرن التاسع عشر، يلجأون إلى كلمة "الكَرَنْتِينَة"، وهي تعريبٌ مفردة فرنسية quarantaine، أي: "أربعون يَوماً"، حيث كان الحَجْر يمتدُّ حينها طيلة هذه الفترة.
وأما في نصوص الأدب العربي، فتكاد ثيمة "الوباء" تغيب تماماً عدا استثناءات قليلة، مثل قصيدة نازك الملائكة (1923-2007)، بعنوان "الكوليرا"، وفيها وصَفت كيف خلَّفَ هذا الوباء آلاف الضحايا في مصر: "مَوْتَى، مَوْتَى، ضَاعَ العددُ"، أنشدَتْ.
وما عدا هذه الاستعادة الشعرية، فيبدو الموضوع غائباً عن الأعمال الروائية مقارنةً مع نظائرها الغربيّة. فما يعرفه العربي من نصوصٍ حول الأوبئة أجنبيٌّ مُترجَمٌ، مثل رواية "الطاعون" (1947) لألبير كامو، وتجري وقائِعها في مدينة وَهران الجزائرية، و"الحب في زمن الكوليرا" (1985) للكاتب الكولومبي غبريال ماركيز، و"موت في البندقية" (1912) للألماني توماس مان، ورواية "العَمَى" (1995) للأديب البرتغالي ساراماغو، وهي تستحضر وباءً متخيّلاً، و"الخَطيبان" (1821) للإيطالي أليسندرو مازوني... فالنصوص الأجنبية المترجمة جمَّةٌ ومتنوعة، تمتدُّ في الجغرافيا على عديد البلدان وفي الأزمنة عصوراً متباعدة، في حين أنَّ المؤَلَّفَ مباشرة في اللسان العربي، حول الأوبئة، نادرٌ، إن لم نقل سطحيّ ومباشرٌ.
ولعل ما يفسّر إحجامَ كُتّابِنا عن تناول مثل هذه المواضيع، حتى من زاوية السرد التاريخي، هو الطلاق البائن بين سجلّ الأدب الروائي وسجلّ العلوم، كالطبّ والبيولوجيا، فالحَقلان متباعدان. وغالباً ما لا يطّلع الروائيون على ما يُصاغ في الحقول العلمية، فيفوِّتون على أنفسهم نسيجاً معجميّاً كان سيسمح لهم بالغوص في أغوار الظاهرة على امتداد صفحات، مع ما يستلزمه ذلك الغوص من عبارات التخييل والإيحاء.
وهكذا، تُشير هذه العَيِّنة من حضور الضاد في تداولات الحياة اليومية إلى صمود سجلّها الفصيح لاستحضار ظاهرة كورونا، والحديثُ عنها من أحلك الحقول. وقد أكَّدت العربية حضورَها كأداةٍ يلتجئ إليها المتكلم - الجَمع للتواصل والإحالة والتوصيف. ولعلَّ هذا المتكلِّم ومُخاطَبَه العربيان واجِدان في هذه الاستخدامات ما يَهبهما إحساساً، ولو وهميّاً، بالسيطرة على الأمراض حين تُسمَّى، وتلك من وظائف اللغة من زاوية الأنثربولوجيا. أفلا يكون هذا النشاط اللغوي، اقتراضاً وتوليداً، تعويضاً عن ضعف القدرات الطبيّة على المجابهة الحقيقية للوباء في معظم البلاد العربية؟