14 نوفمبر 2024
كنت أريد أن أكتب...
من أكثر الأسئلة التي تصل إليّ تعليقاً على مقالاتي الصحافية المتنوعة، والتي اعتدت على نشرها في أكثر من منبر صحافي، الأسئلة التي تبدأ بكيف.
كيف تكتبين؟ كيف تجدين أفكاراً لمقالاتك الكثيرة؟ كيف تبلورين فكرةً مما حولك، فتحولينها إلى موضوعٍ صالح للكتابة؟ كيف تستمرين في الكتابة، في ظل شحّ الأفكار وتكرارها، وكثرة الكتاب الذين يشتركون في الكتابة عنها؟
من الواضح فعلاً إن من يسأل مثل هذه الأسئلة لم يجرّب الكتابة الصحافية بشكل احترافي، فالكاتب الصحافي المحترف عادة يعاني من كثرة الأفكار التي تتزاحم في رأسه، وتتسابق للظهور قبل غيرها، ذلك أنها مثل معاني الجاحظ الملقاة على قارعة الطريق في زمنه، أما في زمننا فتكاد تسد علينا المنافذ، وتحاصرنا في بيوتنا، فلا نحتاج للخروج إلى الشوارع لالتقاط المناسب منها. وهذا ما يجعلني أنحرف غالباً عن نيتي في الكتابة بشأن موضوعٍ معين بمجرد الجلوس للكتابة، فأجدني وقد شرعت في التفكير بموضوعٍ آخر أكثر إلحاحاً. وأحياناً، لا أكاد أضع إصبعي على أول مفتاح في لوحة المفاتيح إلا وموضوع ثالث يطلّ برأسه بين أصابعي، ليكون هو العنوان والمتن والهامش أخيراً.. وهكذا.
وأنا أستعد لكتابة مقالي هذا، مثلاً، كنت على وشك الكتابة عن معرض الكتاب الذي افتتح في الكويت صباح أمس (الأربعاء) في دورته الحادية والأربعين، بوصفه ثالث أقدم معرض كتاب في الوطن العربي.
كنت أريد أن أكتب عن بداياته، وكيف بدأ من فكرةٍ التمعت في رأس المثقف الكويتي التنويري الراحل، عبد العزيز حسين، فنقلها إلى المسؤولين الذين عارض بعضهم الفكرة، على اعتبار أن الوقت مبكرٌ على إنشاء معرض دولي للكتاب، في بلد للتو قد استقل، وما زال في حاجةٍ لكثير من مشروعات الحياة الحيوية، قبل التفكير بترف ثقافي، يمثله معرض كتاب.
كنت أريد أن أكتب عن إصرار عبد العزيز حسين ورفاقه على أن معرض الكتاب لا يمثل ترفاً، بقدر ما يمثل رهاناً استراتيجياً تحتاج بلاداً ناهضة كالكويت، لا ينظر إليها آنذاك حتى من شقيقاتها العربيات إلا باعتبارها بئراً من النفط، وكيف أن معرضاً ضخما للكتاب سيساهم في تصدير صورةٍ مغايرةٍ لتلك الصورة النمطية، كما سيساهم في تعريف الكويتيين والمقيمين في الكويت على نوعٍ جديد من الأسواق، تكون السلعة الوحيدة فيه الكتاب بيعا وشراء، وأن نشاطاً مثل هذا سيكون مجدياً، ليس على الصعيد الثقافي وحسب، ولكن أيضا على الصعيدين، التنموي والاقتصادي.
كنت أريد أن أكتب عن تحقق الحلم ونجاحه، وكيف أصبح مرجعيةً لكل معارض الكتب الخليجية والعربية بعده، وقد استعار كثير منها نظامه الأساسي، وأسلوب العمل والتنظيم فيه.
كنت أريد أن أكتب عن مراحل التطور الهائلة التي مر بها المعرض لاحقاً، والقفزات الكبيرة التي حققها في غضون عقدين تقريباً، حتى أنه كان في فترةٍ المعرض العربي الوحيد الذي يجمع بين أروقته، وفي أجنحة دور العرض، أكبر وأشهر المثقفين والأدباء العرب الذين يحرصون على زيارته، لا بوصفهم أدباء ومثقفين وحسب، بل قراء أولاً، يقبلون عليه، فيجدون فيه ما لا يجدونه عادةً في مكان واحد من الكتب العربية النفيسة، بلا خوف من رقيب أو حسيب.
كنت أريد أن أكتب عن مآلات هذا المعرض، بعد أن عصفت به عواصف الزمن، فشاخ قبل أوانه، وتحول من بؤرةٍ ثقافيةٍ متفاعلةٍ، ليس مع محيطها المحلي الضيق وحسب، بل مع الواقع الثقافي العربي بأسره، إلى مجرد سوقٍ لبيع الكتب الناجية من مقص الرقيب.
كنت أريد أن أكتب عن مقص السيد الرقيب، وكيف تسلل إلى أروقة معرض الكويت الدولي للكتاب تدريجياً، وبمبرّرات مختلفة، فتمسكن حتى تمكّن، فأصبح هو العنوان الرئيس لهذا المعرض.. لكنني عدلت عن الفكرة كلها، وقرّرت الكتابة عن موضوع آخر، بانتظار أن يفاجئنا هذا المعرض الذي شاخ، ولو على سبيل الحلم، بعودته إلى صباه.