كما لو أنّك ترمي النرد

06 فبراير 2019
(تفصيل من عمل لـ إفجيني دولوف/ بلغاريا)
+ الخط -

يَعتبر بلزاك الصدفةَ أكبر روائي، بل إنه يقصر مهمّة الكاتب على دراستها، أي على جعلها حدثاً مُقنِعاً وحاملاً لدلالات... أن تأخذ بيد القارئ لا أن تلجم مخيّلته. إلا أنّ وجهة نظرٍ مقابِلة تجد الصدفة أضعف أنواع الحبكات. إذن، ما الذي يجعل من صدفة قد تحدث في حياة أيٍّ منا، حدثاً بنّاءً في رواية نقرأها؟ ما الذي يجعل من حدث، نعتقده تافهاً، إشارةً إلى قانون احتمالات مجهول ينظم سِيراً ويبتكر أخرى؟

في مدن صغيرة وضيّقة، لا يحتاج كاتبٌ ما إلى كلمات كثيرة حتى يصف رؤية شاب لحبيبته الأولى، وهي تعبُر الطريق رفقة زوجها، فيما حياتهُ متوقّفة عندها، لتدفع هذه الصدفةُ الشاب إلى وثبةٍ في الماضي. لا نتأخّر حتى نعرف أنّ هذا الشاب مصاب بالحنين للأشخاص والأمكنة، وبناءُ شخصيته يجري بكشف غبار الزمن عنهُ فحسب.

لا يحتاج كاتب يُصوّر مطعماً جامعياً إلى كلمات كثيرة ليصف رؤية شابٍ صديقاً اعتذر عن لقائه بحجّة سفر طارئ، ليكون اللقاء مدخلاً للحديث عن خيبة ونكران. لا نتأخّر لندرك تعذُّر التأقلم الذي يعانيه الشاب في مجتمعه الجديد.

في الحياة، قد تحول صدفةٌ بين اجتماع عاشقَين، بالقدر الذي تُجيز التقاءَ بشر آخرين. وفي السينما أمثلةٌ كثيرة عن حبكات كان التغيُّر فيها قائماً على تلك المفردة المبهمة التي تأخذ من الأدب مأخذ الفتنة من العيش الرتيب، إذ تُحوِّل صدفة ريتشارد غير من زوج ناجح منضبط ومحبّ، إلى قاتل بعدما انتقم لخيانة زوجته بقتل عاشقها في فيلم "Unfaithful"، في حين أنّ فيلم كريستوف كيسلوفسكي "Blind Chance" واحدٌ من أكثر الأفلام التي تحاكي الاحتمالات القدرية المتعدّدة؛ إذ يرصدها بثلاثة أوجه لحياة شاب بولندي واحد، بدءاً من انطلاق القطار، عندما يسافر لصالح الحزب الشيوعي، وعندما يتأخّر عن اللحاق بالقطار فيعود إمّا إلى الكنيسة أو إلى الجامعة. يُقلّب كيسلوفسكي المصائر ويصيغ العلاقات أو ينفيها كما لو أنّه يرمي النرد.

كثيراً ما يروي أشخاص تركوا بلدانهم رؤيتهم أصدقاء طفولتهم في البلدان التي توجّهوا إليها. حدث هذا للسوري في ألمانيا إبّان اللجوء، وحدث للعراقي في دمشق أيضاً، حيث المنافي التي تُوحي بالافتراق والغربة، إلّا أنّها منافٍ ذات طبيعة جماعية صارت نوعاً من التآسي.

هكذا، تصبح صدفة رؤية جار أو رفيق أو حبيب، ولو كان خائناً، تذكاراً ومواساة، بقدر ما هي نواح وأفول وشتات. تصبح لحظاتٍ تستدعي تداعياً جمعياً، إذ لا يكون الفرد في هذا الموقف واحداً، وإنّما يتبدّى انتماؤه في صراعات كان قد قرّر رميها وراءه، وما تلبث أن تتغلّب عليه.

صدفةٌ من هذا النوع تثري النص، رغم إمكانية افتعالها، وتجعله نصّاً يؤوي حيوات كثيرة، وتخرج الصدفة بالتالي عن كونها حدثاً عابراً في حياة الشخصية، لتكون وعياً لتيار في السرد، ومشهداً يجمع خلف الشخصَين شعوباً وآلاماً. واحدة من الصدف الشهيرة رؤية المغتصبة مغتصبَها وقد حاز لجوءاً إنسانياً في ألمانيا. لو قرأ أحدٌ هذه القصّة في رواية ما، لتوقّف عند جنوح كاتبها. إلا أنّ الكاتب لا ينشغل بصناعة الصدفة أكثر ممّا تشغله صناعة فضائها، ولا ينتهي حدثٌ إبداعي بصدفة إلا أنّه يبدأ بها، إمّا نموّاً أو تداعياً.

أفكّر الآن: ما احتمال أن يقرأ أحدٌ هذا المقال وأنا جالس في المقهى مقابلًا لهُ؟ وما احتمال أن نصير صديقَين ونجلس على طاولة واحدة، بعدما كنا غرباء، كلّ يركن إلى تياره الخاص والذي شكّلته صدف وأحداث عابرة؟


* كاتب سوري

المساهمون