13 نوفمبر 2024
كريمة مختار... ماما نونا
أقسم كثيرون أن خبر وفاة الفنانة الكبيرة، كريمة مختار، كان له وقع خبر وفاة أمهاتهم اللواتي رحلنَ قبلها، فقد كانوا يعتبرونها الأم الحنون على الشاشة، ولم تفارق مخيلتهم هذه الأم مع تعدّد أدوارها، ومع كسرها ما يُعرف بالحاجز الوهمي بين السينما والحياة، فشعر غالبية جمهورها بأنها أمّهم فعلاً، خصوصاً أنها قد أدّت دور الأم وهي في سنّ صغيرة، فتميّزت وتألّقت فيه، على عكس معظم أمهات الشاشة اللواتي قدّمن دور الأم حين تقدّم بهنّ العمر.
تشاركت معها كأُم بمشاعر الأمومة الطيبة البسيطة. ومثلما يؤكد علماء النفس أن النساء يتشابهن في موقفهنّ وتعاملهنّ مع أولادهنّ بعد سن الأربعين، ويصبحن يشبهن أمهاتهنّ في تصرفاتهنّ، مهما تلقّين من تعليم، فشخصيتها انعكست على تصرّفاتي وسلوكي، حين أصبحت أُمّاً، تحبّ وتشفق وتحنو، وتنتحل الأعذار أمام كل إهمال أو تقصير.
قتلتني كريمة مختار، حين شاهدت لقطةً مؤثّرةً في فيلمها السينمائي الأخير "ساعة ونص"، فانهمرت الدموع من عينيّ، ووجدت أنني لو كنت مكانها في هذا الموقف، سأحذو حذوها، فابنها الوحيد الفقير، القليل الحيلة، الضائع التائه، مثله مثل معظم الشباب العربي في هذه الأيام، لم يعد يملك بيتاً يؤويه مع أمه، ولم يكن يملك ثمن الدواء لمرضها المزمن، فاشترى تذكرة قطارٍ، وأعطاها رسالةً يطلب فيها من قارئها أن يودِع أمّه دار المسنين، وسافر الابن باحثاً عن عمل، أو قذف نفسه إلى مصيرٍ مجهول، أمام بؤس الأوضاع التي تواجه "الغلابا" الذين يحلمون ولا يصلِون.
في تلك اللقطة المكبّرة على انفعالات وجهها، انهمرت دموعي، وأنا أعيش قسوة الأوضاع مع أولادي الذين أفنيت عمري من أجلهم، وجدتني أبكي، وأنا أنظر إليهم وكأنني أقول لهم سوف أسامحكم، فهي، وبكل حب ولوم وجلد للذات، انتحلت عذراً لابنها لأنه تركها في القطار وفرّ هارباً، اعتقدَت، أو أوهمت نفسها، أنه قد فعل ذلك لأنها طلبت منه دواء مرض السكر، ولم يكن يملك ثمنه، وبدأت تشتم نفسها وتقرّعها.
ومن دون وعي، قلّدتُ كريمة مختار في دورها الخالد في مسلسل "حصاد العمر"، فقد كانت تعمل خياطةً لتعيل أولادها بعد وفاة زوجها، وكانت تقوم بخدعة اتّبعتُها أيضاً من دون علم أولادي، وحين اكتشفوا ذلك أنّبوني بشدّة، لأنني أحدثت إرباكاً لمواعيدهم وارتباطاتهم، فهي كانت تعدّ الأيام وتستعجلها لكي تمضي سريعاً، وينتهي المشوار، بعد أن نال منها التعب، فهي تنكفئ ليل نهار على آلة خياطةٍ يدويةٍ وتديرها بقدمها أحياناً، ولكنها لا تشكو ولا تتذمّر، تمارس أمومتها بحبّ، حتى مع تمرّد أكبر أولادها وتنكّره لتضحياتها، فهي تنظر بعين الشفقة للآخرين، وتصرّ على القيام بواجبها نحوهم، فتسير ببطء نحو "الرُزنامة" المعلّقة على الجدار المتآكل، وَكَسِمة كل بيت عربي، فتمزّق ورقة أو اثنتين، لكي تستبق الأيام، فيتقدّم اليوم ويسرع التاريخ، ويكتشف أولادها ذلك، ولا يشعرون بالطمأنينة اللحظية التي تشعر بها، بأن الأيام تمرّ وبأن سفينة التضحية والمعاناة قد قاربت على الوصول إلى مينائها الأخير.
ظلّت كريمة مختار مميّزةً حتى النهاية، فقدّمت أعظم أدوارها تأثيراً على الشاشة الصغيرة، وهو دور "ماما نونا"، والذي قدّم مادةً إعلانيةً واسعةً وسهلةً، لشركات إنتاج مستلزمات الأطفال، وحتى لدور الحضانة والمدارس والمراكز التعليمية الخاصة، بسبب تعلّق الصغار والكبار بشخصيتها. وعلى الرغم من ذلك، فمن المؤسف أن كريمة مختار لم تحصل على لقب الأم المثالية تكريماً رسمياً لها، والمأمول بعد وفاتها أن تنال هذا التكريم الذي تأخّر، فكريمة مختار ستبقى الفنانة الملتزمة التي لم تتزوّج سوى مرّةٍ في حياتها، وليست مثل فيفي عبده التي حصلت على لقب الأم المثالية، في تعبيرٍ صارخ عن مرحلة النكسة التي تعيشها مصر، وما تبعها من تراجع في المستوى الثقافي والأخلاقي، فكريمة مختار هي الأم العربية التي حافظت على أسرتها، على الرغم من غياب روح الأسرة العربية عن حياتنا، وربّت أولادها الأربعة، فكانت ضميرهم قبل أن تكون أُمَّهم.
تشاركت معها كأُم بمشاعر الأمومة الطيبة البسيطة. ومثلما يؤكد علماء النفس أن النساء يتشابهن في موقفهنّ وتعاملهنّ مع أولادهنّ بعد سن الأربعين، ويصبحن يشبهن أمهاتهنّ في تصرفاتهنّ، مهما تلقّين من تعليم، فشخصيتها انعكست على تصرّفاتي وسلوكي، حين أصبحت أُمّاً، تحبّ وتشفق وتحنو، وتنتحل الأعذار أمام كل إهمال أو تقصير.
قتلتني كريمة مختار، حين شاهدت لقطةً مؤثّرةً في فيلمها السينمائي الأخير "ساعة ونص"، فانهمرت الدموع من عينيّ، ووجدت أنني لو كنت مكانها في هذا الموقف، سأحذو حذوها، فابنها الوحيد الفقير، القليل الحيلة، الضائع التائه، مثله مثل معظم الشباب العربي في هذه الأيام، لم يعد يملك بيتاً يؤويه مع أمه، ولم يكن يملك ثمن الدواء لمرضها المزمن، فاشترى تذكرة قطارٍ، وأعطاها رسالةً يطلب فيها من قارئها أن يودِع أمّه دار المسنين، وسافر الابن باحثاً عن عمل، أو قذف نفسه إلى مصيرٍ مجهول، أمام بؤس الأوضاع التي تواجه "الغلابا" الذين يحلمون ولا يصلِون.
في تلك اللقطة المكبّرة على انفعالات وجهها، انهمرت دموعي، وأنا أعيش قسوة الأوضاع مع أولادي الذين أفنيت عمري من أجلهم، وجدتني أبكي، وأنا أنظر إليهم وكأنني أقول لهم سوف أسامحكم، فهي، وبكل حب ولوم وجلد للذات، انتحلت عذراً لابنها لأنه تركها في القطار وفرّ هارباً، اعتقدَت، أو أوهمت نفسها، أنه قد فعل ذلك لأنها طلبت منه دواء مرض السكر، ولم يكن يملك ثمنه، وبدأت تشتم نفسها وتقرّعها.
ومن دون وعي، قلّدتُ كريمة مختار في دورها الخالد في مسلسل "حصاد العمر"، فقد كانت تعمل خياطةً لتعيل أولادها بعد وفاة زوجها، وكانت تقوم بخدعة اتّبعتُها أيضاً من دون علم أولادي، وحين اكتشفوا ذلك أنّبوني بشدّة، لأنني أحدثت إرباكاً لمواعيدهم وارتباطاتهم، فهي كانت تعدّ الأيام وتستعجلها لكي تمضي سريعاً، وينتهي المشوار، بعد أن نال منها التعب، فهي تنكفئ ليل نهار على آلة خياطةٍ يدويةٍ وتديرها بقدمها أحياناً، ولكنها لا تشكو ولا تتذمّر، تمارس أمومتها بحبّ، حتى مع تمرّد أكبر أولادها وتنكّره لتضحياتها، فهي تنظر بعين الشفقة للآخرين، وتصرّ على القيام بواجبها نحوهم، فتسير ببطء نحو "الرُزنامة" المعلّقة على الجدار المتآكل، وَكَسِمة كل بيت عربي، فتمزّق ورقة أو اثنتين، لكي تستبق الأيام، فيتقدّم اليوم ويسرع التاريخ، ويكتشف أولادها ذلك، ولا يشعرون بالطمأنينة اللحظية التي تشعر بها، بأن الأيام تمرّ وبأن سفينة التضحية والمعاناة قد قاربت على الوصول إلى مينائها الأخير.
ظلّت كريمة مختار مميّزةً حتى النهاية، فقدّمت أعظم أدوارها تأثيراً على الشاشة الصغيرة، وهو دور "ماما نونا"، والذي قدّم مادةً إعلانيةً واسعةً وسهلةً، لشركات إنتاج مستلزمات الأطفال، وحتى لدور الحضانة والمدارس والمراكز التعليمية الخاصة، بسبب تعلّق الصغار والكبار بشخصيتها. وعلى الرغم من ذلك، فمن المؤسف أن كريمة مختار لم تحصل على لقب الأم المثالية تكريماً رسمياً لها، والمأمول بعد وفاتها أن تنال هذا التكريم الذي تأخّر، فكريمة مختار ستبقى الفنانة الملتزمة التي لم تتزوّج سوى مرّةٍ في حياتها، وليست مثل فيفي عبده التي حصلت على لقب الأم المثالية، في تعبيرٍ صارخ عن مرحلة النكسة التي تعيشها مصر، وما تبعها من تراجع في المستوى الثقافي والأخلاقي، فكريمة مختار هي الأم العربية التي حافظت على أسرتها، على الرغم من غياب روح الأسرة العربية عن حياتنا، وربّت أولادها الأربعة، فكانت ضميرهم قبل أن تكون أُمَّهم.