كثير من المماحكة.. قليل من الموضوعيّة

16 ابريل 2015
+ الخط -

يلقى البرنامج التلفزيوني "مع إسلام بحيري"، أصداءً واسعة في الساحة الإعلامية عموماً، وهزات عنيفة في الوسط الإسلامي "الوسطي" على وجه الخصوص. فعلى الرغم من أن مراجعة كتب التراث الإسلامي التي يقوم عليها البرنامج ليست بالأمر الجديد، غير أنّ تناول هذا الشأن من خلال شاشة التلفزيون التي تصل إلى شريحة كبيرة من الجمهور، يعدّ حدثاً فريداً في هذا المضمار، أثار ما أثاره من جدل واسع في الإعلام والهيئات الدينية ومواقع التواصل الاجتماعي.

وكما هي عادة الأزهر والجماعة السلفية في التعاطي مع مثل هذه القضايا، من مبدأ: أقصر الطرق للانتصار على خصمك هي أن تجعله غير قادر على الكلام، عملت على تطبيق هذا الأمر مع برنامج بحيري. غير أن هذه الجهات التي غدت مقلّمة الأظافر بعد 30 يونيو/ حزيران، كانت سبلهم لوقف بحيري عن الكلام أقل حدّة ومباشرة، من نحو اغتيال الشخصية بوصف مقدم البرنامج بأنه مدفوع من جهات ما، أو أنه مسيحي يطعن في الإسلام... إضافة إلى الطلب رسمياً من الجهات المختصة بوقف البرنامج؛ لما اعتبروه مساساً بثوابت الدين، وتهديداً للسلم المجتمعي.. أضف لذلك الدعوات المتكررة لمناظرة مقدم البرنامج، التي هي مدار النقاش في هذا المقال.

من المفترض أن الغاية النبيلة لأي نقاش هي الوصول لأقرب صورة من الصواب/ الحقيقة؛ كون الحق المطلق محض مثاليات. فإذا نظرنا إلى المناظرة من هذه الزاوية، فإنها أبعد ما تكون عن هذه الغاية. فالمناظرة المحصورة في إطار زماني: سويعات معدودات، لا يمكن أن تفضي إلى نتيجة ذات قيمة، خاصة أن موضوع النقاش، الذي هو كتب التراث الإسلامي، يحتاج مكتبات لتغطيته، لا محض سويعات. ويترتب على ذلك تسطيح اضطراريّ للفكرة موضع النقاش، فضلاً عن اللجوء للشخصنة والألاعيب البلاغية التي لا تخدم الحقيقة المبتغاة. أضف إلى ذلك سعي كل طرف لإيقاع الآخر في محظورٍ ما، غالباً ما يكون خارج صلب الموضوع محل النقاش. فعلى الأغلب سيحرص المناظر الإسلامي على إظهار الطرف الآخر منتهكاً لتابوه ديني، كالقرآن أو شخصية النبي والصحابة، في حين سيحرص بحيري على إظهار الخصم على أنه ينتمي لعقلية الجماعات الإسلامية التكفيرية، وفي كلا الحالتين تضيع بوصلة الحوار وتنتفي الموضوعية.

لا شك أن الصراع يكون أكثر تحضّراً كلما ابتعد عن المباشرة؛ فصراع لاعبي غولف أكثر لطفاً من صراع ملاكمين. وفي هذه الحال من المفترض أن المناظرة، التي هي صراع فكري، تنطبع بسمة عالية من التحضّر والرقيّ، غير أن هذا الأمر لا يكون هكذا إذا ما اتُّخذت المناظرة وسيلة لصراع أكثر عنفاً، والتاريخ يشهد كم من مفكر قاده نقاشه مع المتدينين إلى الموت، كالحلاج والسهروردي وغيرهما، وليس آخرهم فرج فودة، الذي دفع حياته بعد مناظرته مع مشايخ أزهريين، في حين لا تسعفني معرفتي بتذكر اسم رجل دين واحد قضى بيد مفكر.

إن المناظرة ليست مبارزة بين أقوى مقاتلين في جيشين متصارعين، تنتهي المعركة بمقتل أحدهما دون سفك الكثير من دماء الجنود. إن السجالات الفكرية الممتدة تفضي إلى إهراق الكثير من الحبر، وفي ذلك منفعة فكرية عظيمة. فلمَ نغلقُ باباً من أبواب البحث والتفكير والتحليل؟ ومَن المستفيد من ذلك؟

من جهة أخرى، تشير دعوات الإسلاميين المتكررة خصومَهم للمناظرة، إلى أنهم لا يزالون يعيشون في عقلية "يؤتك الله أجرك مرتين"، أي أنهم يعتبرون الناس جَهَلة مقلدين يحتاجون من ينوب عنهم في التفكير، فإن هُزم خصمهم في المناظرة، ظنوا أن من يتبعه سينفكّ عن نهجه. والأمر ليس بهذه السذاجة؛ إذ إن في كلا المعسكرين من يفوق طرفي المناظرة علماً ومعرفة وذكاءً وقدرةً على التفكير والتحليل واستخلاص النتائج.

خلاصة القول، لنتخلّ عن هذه المماحكات وشخصنة المسائل الفكرية، ولنحترم عقول الناس. لينتج كل طرف طرحه وتحليله بغية دراسة الموضوع لا بغية هزيمة الآخر، فلا خاسر في هذه الحال إلا الحقيقة والصواب. ولنحترم عقول الناس، وليكن لهم حق التفكير والتحليل ومحاكمة الآراء والأفكار، دون قيود على حق الرأي والتفكير، بحجة المساس بالمقدس والثابت، فلا ثابت إلا ما هو ميّت.


(الأردن)