يعيش السودان مآسي جديدة سببتها أمطار خريف هذا العام وما رافقها من سيول وفيضانات، خلفت دماراً كبيراً في 16 ولاية من جملة 18 ولاية سودانية، وتأثر بها نحو نصف مليون نسمة، طبقاً للتقارير الرسمية
عماد أبو شامة، مواطن سوداني، من قرية الجديد عمران، في ولاية الجزيرة، وسط السودان، وجد نفسه، صباح أول من مس السبت، بلا مأوى، إذ غطت فيضانات نهر النيل الأزرق القرية بأكملها، وتسببت في دمار منزله المكون من ثلاث غرف ومطبخين وصالتين. ولم يتمكن من إنقاذ شيء من الأثاث، في ما عدا الغسالة والثلاجة، فقد ابتلعت المياه كلّ ما في المنزل. وصل أبو شامة، أمس الأحد، إلى العاصمة الخرطوم، التي تبعد 35 كيلومتراً عن قريته، بحثاً عن منزل يستأجره مع أسرته. في المنطقة نفسها وجدت 800 أسرة نفسها مشردة من منازلها التي دمرت، بالإضافة إلى دمار ستّ مدارس ومركز صحي كما الأسواق والمتاجر، من ضمن دمار أوسع بكثير في معظم أنحاء السودان. إذ أعلنت الخرطوم، صباح أمس الأول السبت، حالة الطوارئ في كامل أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر، لمواجهة الفيضانات الكبيرة التي شهدها خريف هذا العام، وأغرقت مناطق واسعة في البلاد، مع اعتبار "السودان منطقة كوارث طبيعية".
يقول أبو شامة لـ"العربي الجديد" إنّ قريتهم، وعمرها أكثر من 150 عاماً، لم تشهد فيضاناً للنيل الأزرق كالذي وقع في الأيام الماضية، وإنّ سكان القرية شهدوا على كلّ شيء ينهار أمامهم من دون أن تكون لهم القدرة على فعل أيّ شيء. يحمّل المسؤولية كاملة للحكومة التي ذكر أنّها تلكأت في إقامة سدّ واقٍ للمنطقة، أو حتى توفير جوالات فارغة للأهالي كي يملؤوها بالتراب ويجعلوها سداً واقياً. ويحذّر من أنّ المنطقة لن تنهض مرة أخرى ما لم توفر الحكومة دعماً وتعويضاً للأهالي، وإلاّ ستتضاعف الكارثة، خصوصاً في جوانبها الصحية.
ما حدث في الجديد عمران القريبة من العاصمة الخرطوم، صورة طبق الأصل لما وقع في مئات القرى والمدن السودانية طوال الأسابيع الماضية. وطبقاً لإحصاءات أعلنت عنها وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية، لينا الشيخ، رئيسة اللجنة العليا لطوارئ الفيضانات، فإنّ التقارير المتعلقة بفيضانات هذا العام أوضحت تأثر 16 ولاية من ولايات السودان، ووفاة 99 مواطناً، وإصابة 46 آخرين، وتضرر أكثر من نصف مليون نسمة، وانهيار كلّي وجزئي لأكثر من 100 ألف منزل. وفي تقرير لاحق، أشار الدفاع المدني إلى أنّ عدد الوفيات ارتفع إلى 101، وأحصى الدفاع المدني، بحسب تقريره، نفوق أكثر من 5 آلاف رأس ماشية، وانهيار مرافق تجارية ومؤسسات تعليمية.
وتجاوزت معدلات الأمطار المسجلة هذا العام الأرقام القياسية المسجلة عامي 1946 و1988، مع تحذيرات مستمرة من فرق الرصد في وزارة الريّ من مؤشرات ارتفاع جديدة، خصوصاً في مناسيب النيل الأزرق المنحدر من الهضبة الإثيوبية الذي سجل أمس الأحد ارتفاعاً بلغ 17.58 متراً، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السودان.
ومن أكثر الولايات السودانية تضرراً بفيضانات النيل الأزرق، ولاية سنار، وسط السودان، إذ اجتاحت المياه عاصمتها سنجة التي تحولت إلى مدينة أشباح، ما دفع والي سنار، الماحي سليمان، إلى إطلاق نداء استغاثة لإيواء آلاف المتضررين. كذلك، أعلن والي الخرطوم أيمن خالد، حالة الاستنفار القصوى، بعدما أحصت السلطات المختصة تضرر 28 ألف أسرة، من بينها 9 آلاف أسرة تضررت بالكامل. وطلب الوالي دعماً غذائياً عاجلاً لأكثر من 50 ألف أسرة، كما طلب أكثر من 8 آلاف خيمة و11350 مشمعاً، إلى جانب مناشدته منظمات المجتمع المدني والمصارف والشركات توفير الأدوية والأمصال اللازمة للرعاية الصحية، والمبيدات لمكافحة الأوبئة.
أما في ولاية البحر الأحمر، شرقي السودان، فقد وقعت الكارثة في مدينة طوكر، ومن هناك يقول المواطن أوهاج أحمد، إنّ 40 إلى 50 في المائة من منازل المواطنين انهارت كلياً أو جزئياً، كما أنّ المدينة شبة مقطوعة عن العالم الخارجي بعد فيضان خور بركة، وهو نهر موسمي ينحدر من الهضبة الإثيوبية. يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ الأهالي لم تصلهم إلاّ إمدادات قليلة، وما زالوا يفتقدون إلى مواد الإيواء والغذاء والدواء وحتى الملابس، داعياً المنظمات الدولية إلى العمل بشكل أوسع، لأنّ حجم الكارثة أكبر من إمكانات الولاية والمركز. ويلفت إلى أنّ البعوض والذباب بدآ في الانتشار في المدينة، فيما بدأت الالتهابات وغيرها من الأمراض تنتقل وسط السكان، لا سيما الأطفال.
في الولاية الشمالية تعرّض أكثر من 346 منزلاً للدمار الكامل في 6 مناطق بمحلية مروي، وما زالت المياه تحاصر عدداً كبيراً من الجزر المأهولة بالسكان. وبحسب المواطن عثمان محجوب، فإنّ كلّ المحاصيل الزراعية في الولاية غرقت. ويوضح محجوب لـ"العربي الجديد" أنّ تصريف بحيرة سدّ مروي ربما يهدد أجزاء واسعة بالغرق خلال الفترة المقبلة. ويشير إلى تكاثر كثيف للبعوض والذباب بدأت تظهر معه إصابات بالملاريا والإسهالات، بالإضافة إلى خطر آخر يتعلق بانتشار الثعابين والتماسيح. ويذكر أنّ الجهد الشعبي للسكان، وكذلك لأبناء الولاية خارج السودان، يعادل عشرة أضعاف الجهود الحكومية.
وكان وزير الصحة المكلف، أسامة أحمد عبد الرحيم، قد حذّر من انهيار الوضع الصحي خلال خريف هذا العام في ظلّ نظام صحي هش ومنهك. وأوضح أنّ ظروف البلاد الاقتصادية وشح الموارد يضاعفان من مأساة المتضررين بالفيضانات والسيول والأمطار، لافتاً إلى أنّ وزارته تتوقع ظهور أوبئة خلال الأيام المقبلة خصوصاً الكوليرا والملاريا، مشيراً إلى أنّ المستشفيات والمراكز الصحية منهكة تماماً منذ ظهور فيروس كورونا في مارس/آذار الماضي، ما ألقى بعبء إضافي عليها.
ومع تلك الأوضاع الصعبة، أعلن مجلس الأمن والدفاع، بتوصية من مجلس الوزراء، حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، كما قرر تشكيل لجنة عليا لمعالجة آثار السيول والفيضانات برئاسة وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وعضوية كلّ الوزارات والولايات والجهات ذات الاختصاص، لتنسيق وتوظيف الموارد وتكامل الأدوار المحلية والإقليمية والعالمية. بدورها، علقت لجنة الأطباء المركزية أنّ إعلان حالة الطوارئ وفتح الباب للمنظمات التطوعية قرار شجاع لكنّه غير كافٍ ولا بد من خطوات عاجلة تتبعه، وتحدّ من أخطار الأثرين البيئي والصحي المتوقعين من جراء الفيضانات. وذكرت اللجنة أنّها أطلقت إنذاراً مبكراً للعمل على مجابهة الخطر الصحي المتوقع من السيول والفيضانات، مثل الإسهالات المائية بكلّ أنواعها والملاريا، والإصابات الناجمة عن لدغات الثعابين والعقارب والحشرات، والإصابات المباشرة نتيجة سقوط المباني والأشجار على المواطنين، فضلاً عن انقطاع بعض المناطق عن الحياة واختفاء الأدوية، خصوصاً أدوية الأمراض المزمنة.
من جهته، يقول الصحافي خالد الفكي لـ"العربي الجديد" إنّ الحكومة المركزية وبقية حكومات الولايات تتحمل المسؤولية الكاملة للكارثة التي وضح تماماً عدم استعدادها لها، بدليل الأضرار غير المسبوقة والعجز عن تقديم يد العون للمتضررين. ويتابع الفكي أنّ "كلّ المؤشرات الصادرة من عدد من الجهات تؤكد أنّ الوضع يمضي إلى خطورة أكبر، مع ارتفاع مناسيب النيل وزيادة معدلات الأمطار التي استمرت هذا العام أكثر من موعدها المعروف سنوياً، بالإضافة إلى الأضرار البيئية المتوقعة بعد نهاية الخريف، وهو أمر إذا لم يجرِ تداركه فمن دون شكّ ستكون هناك كارثة حقيقية".
من جانبه، يقول اللواء أحمد عمر سعيد، رئيس مجلس الدفاع المدني لـ"العربي الجديد"، إنّه بالرغم من المناسيب العالية للفيضانات والأمطار فإنّ الوضع ما زال تحت السيطرة، والجهود التي قامت بها الحكومة وقوات الدفاع المدني بالشراكة مع العديد من الجهات بما في ذلك القوات النظامية، خففت كثيراً من الأضرار التي توقعها الناس بشكل أكبر من ذلك. ويوضح أنّ الدفاع المدني نجح في إجلاء سكان قرى ومناطق عدة غمرها النيل، ويستمر في الانتشار في الأماكن المتضررة بشدة. وبينما يعترف بوجود عجز كبير في مواد الإيواء، يشير إلى أنّ جهود الشباب والمواطنين عموماً خففت من وقع الكارثة. ويلفت إلى أنّ معظم الوفيات وقعت لأطفال وكبار في السنّ. ويضيف سعيد أنّ التوقعات كلّها تشير إلى بدء مرحلة تراجع مناسيب المياه في نهر النيل اعتباراً من اليوم الإثنين، داعياً إلى ضرورة تمسك المواطنين بالحيطة والحذر خلال الأيام المقبلة، تحسباً لأيّ نتائج غير متوقعة.
بدوره، يعتبر الخبير في إدارة الكوارث والأزمات، عبد العظيم عوض، أنّ غياب آليات الاستشعار (الإنذار المسبق) وكذلك غياب الدراسات اللازمة والاستعدادات المبكرة، بالإضافة إلى انشغال الدولة بقضايا سياسية واقتصادية وأمنية واحتقانات اجتماعية، كلّها من العوامل التي ساهمت في كارثة السيول والفيضانات والأمطار. ويوضح عوض لـ"العربي الجديد" أنّ الحكومة، بعدما وجدت نفسها عاجزة، اضطرت إلى طلب المساعدات من الخارج، ومن المستبعد الاستجابة لهذا الطلب بشكل كبير، مع المشاكل والأزمات التي يواجهها العالم. ويدعو إلى الاتعاظ بالتجربة ووضع خطط مستقبلية وتكوين فرق عمل من الخبراء والمختصين من جميع الجهات، وتوفير الإمكانات كافة لفرق العمل، حتى تكون البلاد مستعدة لتفادي التجربة نفسها في السنوات المقبلة.