28 أكتوبر 2024
قراءة مغايرة لإرث دي ميستورا
ليس هدف هذا المقال الدفاع عن المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وإنما قراءة تجربته بناء على معطيات السياسة وموازين القوى الدولية. وهذا يقود أولا إلى مسألةٍ في غاية الأهمية، هي أن إنجازات دي ميستورا أو مواقع فشله، ليست مرتبطة في قدراته وإمكاناته بالدرجة الأولى، بقدر ما هي مرتبطةٌ بما هو متاح له من القوى الدولية الفاعلة للقيام به. ويقودنا ثانيا إلى ضرورة نزع أية اعتباراتٍ أخلاقية عن رؤية المبعوث الأممي للحل في سورية، كما ذهب بعضهم إلى ذلك، حين اعتبروا أن خطأ دي ميستورا الكبير أنه لم يتعامل مع جذر الأزمة المتمثل في البعد الأخلاقي، أي النظر إلى الأزمة من حيث أنها بالأساس ثورة، وليست نزاعا مسلحا.
بعبارة أخرى، يمنعنا إضفاء أي بعد أخلاقي على عمل دي ميستورا من رؤية اتجاه رياح السياسة الدولية وفهمها، فإذا كانت مهمة كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي قد فشلتا، فذلك لأن طبيعة المرحلة آنذاك لم تسمح بحدوث اختراقاتٍ، بغض النظر عن الشخوص الوسيطة في النزاع. وإذا كان دي ميستورا قد حقق بعض التقدم، فذلك لأن طبيعة المرحلة اختلفت، وفرضت معطياتٍ سمحت للرجل بتقديم شيء ما، بدا مرفوضا من المعارضة والنظام على السواء، لأن النظام لا يريد أي تقدّم في العملية التفاوضية السياسية، في حين تريد المعارضة كل شيء، وما فشلت في تحقيقه على الأرض تريد الحصول عليه من بوابة السياسة.
هاتان رؤيتان متناقضتان ومخالفتان حقيقة الواقع. ولذلك رفضتا مسار دي ميستورا مع ما يمثله من انعكاسٍ لماهية الواقع الدولي.
وبالنسبة للمجتمع الدولي، كان لا بد من كسر الستاتيكو السياسي الحاصل، وإعادة البحث عن حلول خلاقة، فتوصلت موسكو وواشنطن إلى أن الحل السياسي غير ممكن، من دون تهيئة الظروف المناسبة له، ثم توصلتا لاحقا إلى أن صيغة قرار مجلس الأمن الدولي 2254 يصعب تطبيقها، وكانت مهمة دي ميستورا تجسيد هذه التفاهمات عمليا.
قُلبت، في مرحلة دي ميستورا، استراتيجية التفاوض من الأعلى إلى الأسفل. وليس معلوما تماما ما إذا كانت عملية القلب هذه كانت من أفكار المبعوث الأممي، أم هي من أفكار مؤسسة راند التي قدّمت في تقاريرها الأربعة "خطة طريق من أجل سورية"، رؤية للحل في سورية، تبدأ من الميدان، وتنتهي في السياسة.
وفي كل الأحوال، طبقت الخطة، وأنشئت مناطق خفض التوتر لتحقيق هدفين، الأول التفرغ لمقاتلة "داعش"، والثاني لإقصاء المعارضة تدريجيا عن المشهد العسكري. وفي مرحلته أيضا، تم استبعاد سلة الحكم من عملية التفاوض، والانتقال إلى سلة الدستور، في مخالفةٍ واضحةٍ للفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254 الذي ما زال المرجعية السياسية والقانونية الوحيدة للحل في سورية. وقد نجم هذا التغيير عن قراءةٍ تعتبر أن التراتب الذي حدده هذا القرار (الحكم، الدستور، الانتخابات) لن يفضي إلى أية نتائج، فالبند الأول (الحكم) يتضمن تقاسما للسلطة، وهو مسألةٌ في غاية التعقيد، بسبب تشابك النظام مع الدولة أولا، وبسبب تعقّد بنية المؤسستين، الأمنية والعسكرية ثانيا، وبسبب أن النظام ليس في وارد التنازل عن جزءٍ من سلطاته، من دون معرفة إلى أين سينتهي المسار السياسي ثالثا.
لذلك لجأت الأمم المتحدة إلى سلتي الدستور والانتخابات، فمن شأن التوصل إلى دستور جديد، أو إعلان دستوري، أن يبلور تصوّرا واضحا لشكل الحكم المقبل.
بعبارة أخرى، الاتفاق على سلتي الدستور والانتخابات يعني بالضرورة الاتفاق على جزءٍ من المبادئ السياسية العامة، فلا يمكن بأي شكلٍ إعادة صياغة الدستور والانتخابات بمعزلٍ عن المبادئ العليا للانتقال السياسي، وهذه خطوةٌ تكتيكيةٌ مهمةٌ، تساعد وتسرّع في الوصول إلى تفاهمات.
على سبيل المثال، سيتضمن الدستور الجديد المبادئ العامة لشكل نظام الحكم وآلية الإصلاحين، السياسي والإداري، شرط أن تنشأ، بعد مرحلة كتابته، بيئةٌ محايدةٌ تقود إلى انتخاباتٍ حرّة ونزيهة.
لم يضع دي ميستورا معالم محددة لتغيير/ تعديل الدستور، وإن اكتفى بالقول إن تغيير النظام السوري سيكون من بوابة الدستور والانتخابات. ولكن من وثيقته المعدلة ذات الـ 12 بندا، يبدو أن الأمم المتحدة تميل إلى تعديل الدستور الحالي، المشكل منذ عام 2012، بحيث ترقى التعديلات إلى تغييرات مهمةٍ في منطوقه، وتؤسس لعملية حوكمةٍ لا تؤدي إلى إسقاط النظام الحالي، ولا تسمح له، في الوقت نفسه، بإعادة إنتاج نفسه.
لقد ترك دي ميستورا وراءه إرثا يستطيع المبعوث الجديد البناء عليه، بغض النظر عن النتيجة النهائية للحل التي تخالف رؤيتنا في ضرورة القضاء نهائيا على نظام الاستبداد.
بعبارة أخرى، يمنعنا إضفاء أي بعد أخلاقي على عمل دي ميستورا من رؤية اتجاه رياح السياسة الدولية وفهمها، فإذا كانت مهمة كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي قد فشلتا، فذلك لأن طبيعة المرحلة آنذاك لم تسمح بحدوث اختراقاتٍ، بغض النظر عن الشخوص الوسيطة في النزاع. وإذا كان دي ميستورا قد حقق بعض التقدم، فذلك لأن طبيعة المرحلة اختلفت، وفرضت معطياتٍ سمحت للرجل بتقديم شيء ما، بدا مرفوضا من المعارضة والنظام على السواء، لأن النظام لا يريد أي تقدّم في العملية التفاوضية السياسية، في حين تريد المعارضة كل شيء، وما فشلت في تحقيقه على الأرض تريد الحصول عليه من بوابة السياسة.
هاتان رؤيتان متناقضتان ومخالفتان حقيقة الواقع. ولذلك رفضتا مسار دي ميستورا مع ما يمثله من انعكاسٍ لماهية الواقع الدولي.
وبالنسبة للمجتمع الدولي، كان لا بد من كسر الستاتيكو السياسي الحاصل، وإعادة البحث عن حلول خلاقة، فتوصلت موسكو وواشنطن إلى أن الحل السياسي غير ممكن، من دون تهيئة الظروف المناسبة له، ثم توصلتا لاحقا إلى أن صيغة قرار مجلس الأمن الدولي 2254 يصعب تطبيقها، وكانت مهمة دي ميستورا تجسيد هذه التفاهمات عمليا.
قُلبت، في مرحلة دي ميستورا، استراتيجية التفاوض من الأعلى إلى الأسفل. وليس معلوما تماما ما إذا كانت عملية القلب هذه كانت من أفكار المبعوث الأممي، أم هي من أفكار مؤسسة راند التي قدّمت في تقاريرها الأربعة "خطة طريق من أجل سورية"، رؤية للحل في سورية، تبدأ من الميدان، وتنتهي في السياسة.
وفي كل الأحوال، طبقت الخطة، وأنشئت مناطق خفض التوتر لتحقيق هدفين، الأول التفرغ لمقاتلة "داعش"، والثاني لإقصاء المعارضة تدريجيا عن المشهد العسكري. وفي مرحلته أيضا، تم استبعاد سلة الحكم من عملية التفاوض، والانتقال إلى سلة الدستور، في مخالفةٍ واضحةٍ للفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254 الذي ما زال المرجعية السياسية والقانونية الوحيدة للحل في سورية. وقد نجم هذا التغيير عن قراءةٍ تعتبر أن التراتب الذي حدده هذا القرار (الحكم، الدستور، الانتخابات) لن يفضي إلى أية نتائج، فالبند الأول (الحكم) يتضمن تقاسما للسلطة، وهو مسألةٌ في غاية التعقيد، بسبب تشابك النظام مع الدولة أولا، وبسبب تعقّد بنية المؤسستين، الأمنية والعسكرية ثانيا، وبسبب أن النظام ليس في وارد التنازل عن جزءٍ من سلطاته، من دون معرفة إلى أين سينتهي المسار السياسي ثالثا.
لذلك لجأت الأمم المتحدة إلى سلتي الدستور والانتخابات، فمن شأن التوصل إلى دستور جديد، أو إعلان دستوري، أن يبلور تصوّرا واضحا لشكل الحكم المقبل.
بعبارة أخرى، الاتفاق على سلتي الدستور والانتخابات يعني بالضرورة الاتفاق على جزءٍ من المبادئ السياسية العامة، فلا يمكن بأي شكلٍ إعادة صياغة الدستور والانتخابات بمعزلٍ عن المبادئ العليا للانتقال السياسي، وهذه خطوةٌ تكتيكيةٌ مهمةٌ، تساعد وتسرّع في الوصول إلى تفاهمات.
على سبيل المثال، سيتضمن الدستور الجديد المبادئ العامة لشكل نظام الحكم وآلية الإصلاحين، السياسي والإداري، شرط أن تنشأ، بعد مرحلة كتابته، بيئةٌ محايدةٌ تقود إلى انتخاباتٍ حرّة ونزيهة.
لم يضع دي ميستورا معالم محددة لتغيير/ تعديل الدستور، وإن اكتفى بالقول إن تغيير النظام السوري سيكون من بوابة الدستور والانتخابات. ولكن من وثيقته المعدلة ذات الـ 12 بندا، يبدو أن الأمم المتحدة تميل إلى تعديل الدستور الحالي، المشكل منذ عام 2012، بحيث ترقى التعديلات إلى تغييرات مهمةٍ في منطوقه، وتؤسس لعملية حوكمةٍ لا تؤدي إلى إسقاط النظام الحالي، ولا تسمح له، في الوقت نفسه، بإعادة إنتاج نفسه.
لقد ترك دي ميستورا وراءه إرثا يستطيع المبعوث الجديد البناء عليه، بغض النظر عن النتيجة النهائية للحل التي تخالف رؤيتنا في ضرورة القضاء نهائيا على نظام الاستبداد.