قراءات الطفولة وذاكرتها: الطيب صالح في الشجاعية

28 مايو 2020
(تيسير بطنيجي)
+ الخط -

كلما كبر القارئ صار حجم كتابه أصغر، وسرعان ما تختفي منه الصور الملونة والكبيرة، ولن تكون هذه متاحة إلا في كتب الفن باهظة الثمن، لكن حياة الصور مستمرة في أدب الطفل إلى يومنا، كما تواصل حياة الكتب التي قرأناها صغاراً العيش في ذاكرتنا.

منذ أيام وضع أحد الكتّاب رابطاً على حسابه في فيسبوك لتحميل "قصص المكتبة الخضراء"، وبدا كأن الآخرين عثروا على قطعة من حياة سابقة؛ وأن لكل واحد قصة مفضلة من هذه السلسلة، ولا بد أن لكل واحد قصة ما عن كتاب تعثّر به في سنوات القراءة الأولى، أو أُهدي إليه، أو ربما لا يزال حاضراً في ذاكرته.

رغم ذلك تردد كثير ممن سألتهم "العربي الجديد" من كتّاب وفنانين في الإجابة عن سؤال: ما هو الكتاب الذي أثّر فيك طفلاً، وما زال حاضراً في ذاكرتك؟ بعض من سألنا لم يجب أصلاً، وبدا أن السؤال أصعب من ما توقعناه.

(نوال العلي - العربي الجديد)


أود أن أتحدث عن رواية الطيب صالح، "موسم الهجرة إلى الشمال"؛ حدث ذلك في نهاية السبعينات/ بداية الثمانينيات؛ كنت في نهاية المرحلة الإعدادية. في تلك الفترة بدا يتشكل في غزة ما عرف بحركة الدعوة الإسلامية متمثلة في "المجمع الإسلامي"، والذي تحول في ما بعد من حركة دينية مهمتها الدعوة إلى "العودة الى الإسلام"، إلى حركة سياسية، وذلك بعد ما يقرب من عام على انطلاقة الانتفاضة الأولى، تحت اسم ما يعرف اليوم بحركة حماس.

كان للمجمع الإسلامي مقر ملتصق بأحد مساجد الشجاعية، ويعرف (أو تمت إعادة تسميته) بمسجد الإصلاح، حيث كان خالي مؤذناً وإماماً للمسجد، قبل أن يسيطر عليه المجمع الإسلامي بشكل كامل. في هذا المكان كانت هناك مكتبة مع نشاطات ثقافية، وصالة للرياضة وبناء الأجسام، وهي من الأشياء التي كان يحلم بها المراهقون والشباب، وأنا منهم، في تلك الفترة التي كان ينقص فيها كل شيء.

المدهش في الموضوع أنني وجدت رواية الطيب صالح، الذي لم أكن قرأته أو سمعت عنه من قبل، في مكتبة المجمع فاستعرتها. كل من قرأ هذه الرواية، يدرك طبعاً مدى التناقض بين محتواها ومحتوى الرسالة التي أخذ هؤلاء "المسلمون الجدد" على عاتقهم بثّها بين صفوف الشباب. كيف ولماذا وصلت الرواية إلى رفوف تلك المكتبة؟ ولماذا اخترتها من بين الروايات والكتب الأخرى؟ لا أعرف.

رغم قلة الكتب، بل ندرتها في بيتنا، إلا أنني كنت قد قرأت في تلك الفترة روايات لنجيب محفوظ، ومدام بوفاري لـ فلوبير وبعض روايات الهلال، ومجلة العربي التي كانت تأتي من مصر. ولكني وجدت في "موسم الهجرة إلى الشمال" عالماً آخر مختلفاً عما قرأته من قبل. وإن كان من الصعب قياس مدى تأثيرها عليّ في ذلك العمر، إلا أنني أعتقد أنها من القراءات، إلى جانب الأشياء الأخرى، التي أثّرت في خياراتي لاحقاً في ما يتعلق بالسفر والبحث عن فضاءات جديدة، على الصعيد الشخصي، الإنساني والفكري.

أبتسم الآن وأنا أتذكر القلق الذي انتابني حينها حول إعادة الرواية إلى المكتبة، بعد أن قرأتها وعلمت بمحتواها، وكيف سيكون رد فعل المسؤولين عن المكتبة.. وكأني ارتكبت جريمة.


* فنان تشكيلي من فلسطين

دلالات
المساهمون