قذّاف الدم... عابر الديكتاتوريات

22 فبراير 2015

معمر القذافي وأحمد قذاف الدم في طرابلس (1996/Getty)

+ الخط -

كثر العابرون، من نظام المخلوع حسني مبارك إلى نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، فكل يوم جديد يظهر نجمٌ يتوشح ببقايا نظام بائد إلى آخر. من داخل مصر، هبّ رجال الدولة العميقة وساستها، يفتك بهم الحنين، ويأبون الفطام من ثدي الديكتاتورية. ومن داخل مصر، أيضاً، نفض أحمد قذاف الدم الممثل السابق للعقيد معمر القذافي في مصر، الرماد من على تاريخه، ليلحق بآخر الواصلين إلى قطار عبد الفتاح السيسي الهائج، المحطِّم لخزف مصر وشعبها.

لا يبدو غريباً حضور أمثال قذّاف الدم في زمن الديكتاتورية، وكأنّهم يرحلون بمتاعهم من حصن إلى آخر. يظهر قذّاف الدم، الآن، نسخة جديدة من صور الطغاة العديدة، ليعيش أحلامه الخاصة بأنّه ما زال مبعوث القذافي في أمّ الدنيا. وإذ تنقلنا الفضائيات المصرية إلى مقابلاته وإفاداته التي تؤكد، بل لا تدع مجالاً للشك، أنّ رياح الثورة التي هبت فغيّرت النظم الحاكمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، لم تقتلع كل شيء، وإنّما بقي ما هو في الظل إلى حين الأوبة خلسة. الصورة العائدة الآن بعد تجاوز ثورات الربيع العربي أربع سنوات، هي حالة يرقص فيها قذّاف الدم على جثث 21 مصرياً بتأييده تنظيم داعش ووحشيته. وذلك كله يتم وسط صمت حذِر من النظام المصري على تصريحات قذاف الدم، وتردد واضح في اتخاذ إجراءات ضده، وقد فعلها من قبل، عندما انتشى فرحاً ووزع الحلوى فوق جثث أبناء بلده شهداء الثورة الليبية، ولم يسائله أحد.

كان سبب احتفال قذاف الدم، العام الماضي، هو صدور قرار القضاء المصري عدم تسليمه إلى السلطات الليبية. ووزع الحلوى فرحاً، وتأكيداً منه على أنّ تسليمه إلى سلطات بلاده لن يوفر له محاكمة عادلة. ولم يكتفِ قذاف الدم بذلك، بل طالب بنقله للعلاج في مستشفى المعادي، أسوة بالرئيس مبارك، لإنهاء معاناته من عدة أمراض، تستوجب رعاية صحية لا تتوفر في السجن.

وبذاك القرار، حصل قذّاف الدم على أكثر من المحاكمة التي وصفها بالعادلة، بأن احتضنه بالكامل نظام السيسي، بل تراءى له أنّ في وسعه القيام بمثل ما قام به الانقلابي في مجازره ومحارقه.

ما زالت الأسئلة تترى حول قذّاف الدم منذ عهد القذافي، وظهوره المريب في مواقف لا يتوقع أحد أن يجده فيها. أمّا الموقع الذي وجده القذافي أكثر ملاءمة له هو عمله منسقاً للعلاقات الليبية المصرية للنظام الليبي السابق، لنسبه إلى قبيلة القذاذفة، ثم أصول أمه المصرية وعلاقته مع مصر. ولأنّه ابن عم القذافي، فقد كان من أقرب أصفيائه وخاصّته. وقد عهد إليه القذافي بدور شائك في أثناء الثورة الليبية، وهو إقناع القبائل البدوية في العمل مرتزقة لمهاجمة القبائل المشاركة في الثورة. ولمّا فشل سعيه، وضاق الخناق على القذافي، أعلن انشقاقه على النظام، وفرّ هارباً، مرة أخرى، إلى مصر التي لم يرحب به فيها كما كان في السابق، فخرجت عليه جموع المتظاهرين من مرسى مطروح التي يقال إنّها مسقط رأسه وموطن أمه، وطالبوا باعتقاله بتهمة قتل الشعب الليبي، إلى اعتقاله في الزمالك بواسطة قوات الأمن المصرية، وبأمر من الإنتربول في 19 مارس/ آذار 2013.

ولعل أوضح صورة تم رسمها للرجل تلك التي جمعها ضمن شخصيات عديدة عبد الرحمن شلقم في كتابه (أشخاص حول القذافي)، فقد استخدم مع شخصية أحمد قذّاف الدم أدوات التحليل النفسي نفسها التي فكّك بها بقية الشخصيات الأخرى، والتي لا تقل إثارة وغموضاً عن هذه الشخصية. وفي كتاب شلقم، السياسي الليبي الذي شغل منصب أمين اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي، ومندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة قبل قيام الثورة، تأتي شخصية قذّاف الدم أكثر بروزاً ووضوحاً عما تم تناوله عنها في السابق. وتظل بعض الجوانب المرتبطة بشخصيته وحياته في مصر حيث يقيم، والتي أصبحت، فيما بعد، زاد وسائل الإعلام الأكثر إثارة. ومن ضمن ما رشح عنه أنّه من أصحاب الملايين والأملاك والعقارات واشتهاره بنشاطاته التجارية العديدة، ثم سعيه إلى أن يلعب دوراً في علاقات مصر وليبيا. ومن موقعه في خارطة الاستثمار، ناشد المستثمرين العرب لضخ أموالهم واستثمارها في مصر، لتمتين القومية العربية.

عاش قذّاف الدم في جلباب القذافي، ولئن كان الأخير يعاني من شروخ نفسية عميقة خلقت منه طاغية، ويبدع، بالتالي، في تشكيل حاشيته إلى مجموعة طغاة، فإنّ قذّاف الدم عاش النقائص الشخصية نفسها التي تجعله ينزع إلى الشر، حين يكون في أمان القذافي. كما كان يتظاهر بالخير، حين ينجلي الفكر المستبد، ليزول انتشاء الحكم وزهوه، في تقرير واقعيّ بأنّه من مدرسة القذّافي الاستعراضية نفسها التي تمتزج فيها الأحلام بالجنون. ثم هاهو يأتي، أخيراً، ليعلن تأييده داعش، وهؤلاء قتلوا مصريين وسط تقاعس حكومة السيسي التي لم تحمهم أحياء، لتصون كرامتهم، وهم في عداد الراحلين.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.