في مفهوم "الانتخابات التشريعية" السورية
يظل الاقتراع العام، في نهاية المطاف، الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية، فبدون العملية الانتخابية والتمثيل السياسي الصحيح، لا يمكن الحديث عن مجتمع ومؤسسات ديمقراطية. والانتخابات استحقاقات مهمة، ومؤشرٌ واضحٌ على أن الانتقال إلى الديمقراطية قد انطلق بالفعل، وعلى أن مأسسة النظام قد بدأت بالفعل. ولهذا ينظر إلى الانتخابات عنصراً جوهرياً في مرحلة اتخاذ القرار. ولكن العملية الانتخابية لم تعد معياراً كافياً لتقويم الديمقراطية في عصرنا الحالي، فحقوق الإنسان ودور المجتمع المدني والمواطنة وفصل السلطات أضحت المقوّم الحقيقي للديمقراطية والليبرالية. والانتخابات وحدها لا تضمن مطلقاً رسوخ النظام الديمقراطي، كما تقول تيري لن كارل، وتجارب التاريخ كثيرة في هذا المجال، فكم من دولةٍ أجرت انتخابات منتظمة، وبقيت في دائرة الأنظمة التسلطية.
ليس هدف الانتخابات التشريعية في سورية إدخال ممثلين جدد للشعب إلى الهيئة التشريعية (البرلمان) المناط بها وضع التشريعات القانونية ومراقبة أداء الحكومة، وإنما الهدف إدخال ممثلين للنظام إلى هذه الهيئة. الفرق كبير بالطبع: في الانتخابات التشريعية داخل النظم الديمقراطية، يجري انتخاب النواب من الشعب بشكل مباشر، وهذا يعني أن الشعب حالة ثابتة غير متغيرة، إنه معطىً تاريخي ثابت، وما يتغير فيه هو إرادته. ومع تغير هذه الإرادة، تتغير الشخوص المنتخبة بين فترة وأخرى، أما في النظم الاستبدادية (سورية مثلاً) الثابت هو النظام وليس الشعب، ولمّا كان الشعب غير موثوق به، فالحل يكون باختيار شخوصٍ تابعين للنظام، ويعملون على خدمته على حساب مصالح المجتمع.
النظام بحاجةٍ كل أربع سنوات إلى إدخال مؤيدين جدد، بما يوسع من لعبة المصالح ويوسع المجال التداولي للسلطة
إنه قلب قانوني لروح السياسة، أو لفن الحكم إذا ما استعرنا عنوان كتاب غوستاف لوبون "روح السياسة"، تلك الروح التي تكمن مقوماتها في روح الأفراد وروح الشعوب ودروس التاريخ، لا في روح الأنظمة وروح الحكام. واختيار النائب من أعلى وليس من أسفل يؤدي إلى قلب مهمته، فبدلاً من أن ينتخب الأكثر حكمةً والأكثر فهماً لتمثيل البرامج السياسية والاقتصادية لمنتخبيه، يتحول منصب النائب إلى مكرمةٍ من النظام للخدمات التي قدّمها ويقدّمها. وعليه، ليست الانتخابات التشريعية في سورية شأناً عاماً، كما هو الحال في الدول الديمقراطية أو تلك السائرة في الطريق الديمقراطي، فلم تستطع العملية الانتخابية نقل القوة الاجتماعية الكامنة في الأفراد والجماعات إلى قوةٍ سياسيةٍ تعبر عن نفسها بأدوات ديمقراطية.
ومع غياب التمثيل السياسي الحقيقي، أضحى "مجلس الشعب" ساحة للتنافس على المكانة والنفوذ ورعاية الزبونية، بحيث أصبح التملق والولاء مدخليْن للوصول إليه، ثم حدث تحوّل مهم في مسار المجلس خلال العقدين الماضيين، مع دخول رجال أعمال حديثي النعمة، معظمهم من صنيعة النظام، والنتيجة أن المجلس لم يعد ساحةً للمكانة والنفوذ فحسب، بل أصبح سوقاً للبازار تتم عبره الملاءمة بين رأس المال الاقتصادي ورأس المال السياسي.
ومن المهم هنا التمييز بين الانتخابات التي تجرى في سورية مثلاً والانتخابات في بعض النظم التسلطية، فكثير من هذه الأنظمة تجري انتخابات ديمقراطية نسبياً، لكنها تبقى غير ديمقراطية من نواحٍ عديدة، ولذلك توصف عادةً بأنها مجرّد ديمقراطيات انتخابية (روسيا، فنزويلا، بعض الدول الأفريقية واللاتينية).
مع غياب التمثيل السياسي الحقيقي، أضحى "مجلس الشعب" ساحة للتنافس على المكانة والنفوذ ورعاية الزبونية
ثمّة عملية انتخابية جرت فعلاً في هذه الدول، لكنها لم تؤدّ إلى ديمقراطية حقيقية، ولم تؤسس للمنافسة والمشاركة السياسية، فضلاً عن غياب البعد الليبرالي فيها، أي ضعف حاد في سيادة القانون والفصل بين السلطات وحماية الحقوق الأساسية وحريات التعبير والتجمع والمعتقد والملكية. أما في سورية فالأمر مختلف، فلم تجر عملية انتخابية حقيقية بالأساس، وما الاقتراع الذي يقوم به الناخبون إلا شكل مزيف، لأن تصويتهم يُرمى في سلة المهملات. ومع ذلك، فإن إجراء الانتخابات في توقيتها أمر مهم للديكتاتوريات:
أولاً، لأنها توصل رسالة إلى المجتمع الدولي بأن ثمّة عملية انتخابية من نوعٍ ما تجرى، وثانياً لأنها توهم عوام القاعدة الشعبية للنظام الديكتاتوري بأن ثمّة نوعاً من الديمقراطية. وفي محاولة للتضليل، اعتمد النظام البعثي ما سمّي "الاستئناس"، وهي آلية مخترعة، غرضها إضفاء نوع من الشورى الكاذبة للقواعد الشعبية.
رئيس النظام اعتبر تجربة الاستئناس دليلاً دامغاً على ديناميكية "البعث" وتطوره، وقدرته على التكيف والانطلاق نحو المستقبل
تقوم فكرة الاستئناس على التخلّي عن قوائم الانتخاب المغلقة، واعتماد اختيار مرشحي حزب البعث على آراء كوادره عبر مؤتمرات موسعة لفروعه، بخلاف الوضع السابق، حيث كان الحزب يفرض مرشحيه من أعلى. وفي الظاهر تختلف الآليات، غير أنه لا يوجد اختلاف من ناحية المضمون والنتائج، لأن الآلية المطبقة تقوم على ترشيح كل مدينة وبلدة ضعف العدد المطلوب لـ "مجلس الشعب"، على أن تختار قيادة الحزب نصفه، الأمر الذي يعني العودة إلى المبدأ الذي كان معمولاً به من سنوات طويلة، وهو أن من يصل إلى البرلمان يجب أن يحظى برضى الحزب وفروع الأمن، وليس رضى الكوادر الحزبية. والمدهش أن رئيس النظام السوري اعتبر تجربة الاستئناس دليلاً دامغاً على ديناميكية "البعث" وتطوره، وقدرته على التكيف والانطلاق نحو المستقبل.
وثانياً، إجراء الانتخابات التشريعية مهم في لعبة توازنات النظام، فهو بحاجةٍ كل أربع سنوات إلى إدخال مؤيدين جدد، بما يوسع من لعبة المصالح ويوسع المجال التداولي للسلطة، وهذا ما بدا واضحاً في الترشيحات لـ "انتخابات مجلس الشعب" في 19 يوليو/ تموز الجاري، حيث طرأت تغييراتٌ على سمات ممثلي جماعات المصالح، مثل رجال الأعمال ورجال الدين والزعامات القبلية وأسر قتلى الجيش قوات النظام.