19 أكتوبر 2019
في مصطلح الربيع العربي
لا يختلف اثنان في مجال البحث الأكاديمي، أين يسود الحذر المفهومي الدائم، على التحفظ على استخدام مصطلحات ومفاهيم لتوصيف ظاهرة "جديدة"، لم تتضح معالمها بعد، ولم نتمكن من فهمها بعد. ويعد تكوين المفاهيم مسألة في غاية من التعقيد، ليس فقط من حيث "ابتكارها"، ولكن من حيث انتشارها واستقرارها (استقرار استخدامها) أيضاً، فضلاً عن نقلها إلى ثقافاتٍ غير ثقافة المنشأ. وتسمى هذه الظاهرة في نظريات العلاقات الدولية تبيئة المفاهيم، بمعنى أن المفاهيم تتكون، وتُنحت، في بيئة معينة، وبالتالي، قد يقضي استخدامها في غير بيئتها الأصلية تعديلات لبعض جوانبها، حتى تتلاءم واللغة والثقافة المنقول إليهما. لكن، هناك مفاهيم تُستخدم لتوصيف ظواهر معينة، من دون أن تكون لها خلفيات سياسية، أو اجتماعية، يتعين الانتباه إلى خباياها ومحاذيرها. فبغض النظر عن اختلاف المواقف بشأن ظاهرة العولمة، فإن العولمة مفهوم وجيه، يفي الغرض لتوصيف الظاهرة.
ولا عجب، ولا حرج، في ألاَّ يحيد مصطلح الربيع العربي عن هذه القاعدة. تسمح لنا المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ اندلاع أحداثه، على الأقل، بالإقرار بأن تحولاً ما حدث في المشهد السياسي العربي، بغض النظر عن الاختلاف في الرؤى التحليلية بشأن مغازي هذا التحول (أحداث الربيع العربي)، وتطوراته وتفاعلاته المتقدمة والارتدادية وفواعله.
كنت شخصياً أضع، في البدايات الأولى للأحداث، عبارة الربيع العربي بين معكوفتين ("الربيع العربي")، ليس ممالأة لهذا، أو دفاعاً عن ذاك، وإنما من باب الحذر الأكاديمي. فتحفظي كان منهجياً، لكن، مع تطور الأحداث، واتضاح الرؤية بعض الشيء بشأن ما حدث ويحدث، رأيت أن الشك المنهجي فقد إلى حد كبير مبرر وجوده، وخصوصاً أن الأحداث ليست عرضية، بل هي تعبير عن سيرورة اجتماعية وسياسية، بصرف النظر عن السياقات الوطنية، والمسارات التي اتخذتها. فضلاً عن هذا، ليست لمصطلح الربيع العربي خلفيات سياسية، تقتضي الحذر، فهو سمي هكذا عملاً بربيع الشعوب في أوروبا في منتصف القرن التاسع العاشر. وهذا مصدره.
اعتاد المراقبون والمعلقون في الغرب عموماً على استخدام "الربيع"، لتوصيف انتفاضات شعوب تثور من أجل الحرية، ومن أجل تحسين ظروف معيشتها، على طريقة ما حدث في أوروبا في 1848. حيث عرفت بعض بلدانها (فرنسا، ألمانيا، بولندا، إيطاليا، المجر...) انتفاضات شعبية عارمة ضد الملكيات، انطلقت من فرنسا في فبراير/شباط 1848 (حيث أدت الأحداث إلى سقوط الملكية وميلاد الجمهورية الثانية التي أقامت الديمقراطية مجدداً في البلاد، لكن هذه الجمهورية سقطت بعد ثلاث سنوات على يد لويس نابليون بونابرت)، لتنتقل عدواها إلى دول أوروبية أخرى. وسميت هذه الأحداث فيما بعد بربيع الشعوب، أو ربيع الثورات. ومنذ ربيع الشعوب الأوروبية المنتفضة من أجل الحرية، أصبح الربيع يُستخدم لتوصيف أحداث مماثلة. وقد أطلق إبان الحرب الباردة على محاولة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي تحرير النظام (بإدخال قواعد ليبرالية) في 1968، لكن إصلاحاته أجهضت بعد التدخل العسكري السوفياتي. وبما أن انتفاضات الربيع العربي شبيهة بما حدث في أوروبا في 1848، من حيث إنها تشترك، وإياها، في التوق إلى الحرية والكرامة الإنسانية، سميت هذه الأحداث التي انطلقت من تونس بالربيع العربي.
لكن، لماذا تُستخدم عبارة "ما يسمى بالربيع العربي" في أدبيات وصحف بعض البلدان العربية؟ يمكن تفسير هذا بمحاولة بعضهم التشكيك في ما يحدث، والتقليل من شأنه، بل ووصفه بمؤامرة غربية. والمثير للانتباه أن تهمة المؤامرة تصدر، أيضاً، عن بلدان هي الأخرى حليفة للقوى الغربية! لا جدال في أن الموقف العربي المعادي لانتفاضات الحرية يعبر، بشكل لا ريب فيه، عن هاجس العدوى، وعن تشكيك في الانتفاضات الشعبية في دول الربيع العربي ورفض شرعيتها. وبلغت "معاداة" مصطلح الربيع العربي مستويات غير معقولة في بعض البلدان التسلطية العربية، فقد برر مسئولون عن جامعات رفضهم تنظيم ندوات علمية عن الربيع العربي بحجة أن الدول التي ينتمون إليها لا "تعترف بما يسمى بالربيع العربي"! أما الموقف الرسمي للدول التسلطية من الربيع العربي فهو واضح: تحترم إرادة الشعوب العربية التي انتفضت. وهو موقف في غاية من الاستخفاف بشعوبها: لا يمكن لدول لا تحترم إرادة شعوبها أن تكترث بإرادة الشعوب الأخرى.
هناك مشكلة عربية في التعامل مع كل ما هو طارئ وجديد. إلى جانب أن تقديس التراث ترسخ، مع مرور الزمن، نوعاً من تقديس الوضع القائم، انطلاقاً من مسلمة أنه (بالضرورة) أحسن مما هو آت، تحت مبررات ومسوغات دينية، كالقائلة بطاعة أولي الأمر (مع تجاهل مسألة الشرعية التي هي قوام الحكم!). فكان أن أدت هذه العقلية المحافظة إلى سيطرة أدبيات الأهوال التي يتغير موضوعها، لكن، لا يتغير منطقها: أهوال القيامة، أهوال الشرق أوسطية، أهوال العولمة، أهوال الربيع العربي... لكن فاقد الشيء لا يمكن أن يخاف على ما يفتقر إليه أصلاً. القوى المناوئة للربيع العربي، كحركة احتجاجية تتوق للحرية وللكرامة، توهم الناس بأنه سيجلب الخراب والدمار، مستدلين بما يحدث في ليبيا وسورية. لكن هذه حتمية تاريخية، لا يمكن القبول بها. ثم إن الإيهام بأن الاستقرار التسلطي خير من الاستقرار الديمقراطي استخفاف ما بعده استخفاف.
ليست مشكلة معادي الربيع العربي في انعكاساته الأمنية (ليبيا وسورية)، وإنما في أنه أحدث نقلة نفسية لدى الشعوب العربية: انتقال الخوف من معسكر الرعية إلى معسكر الراعي. ومن هذا المنظور، أعاد الربيع العربي المشهد السياسي إلى بدايته الأولى: إما أن يتخلص الشعب من الحاكم المتسلط، أو أن يتغلب عليه (مجداً)، ويعيد إحكام قبضته الأمنية.
ولا عجب، ولا حرج، في ألاَّ يحيد مصطلح الربيع العربي عن هذه القاعدة. تسمح لنا المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ اندلاع أحداثه، على الأقل، بالإقرار بأن تحولاً ما حدث في المشهد السياسي العربي، بغض النظر عن الاختلاف في الرؤى التحليلية بشأن مغازي هذا التحول (أحداث الربيع العربي)، وتطوراته وتفاعلاته المتقدمة والارتدادية وفواعله.
كنت شخصياً أضع، في البدايات الأولى للأحداث، عبارة الربيع العربي بين معكوفتين ("الربيع العربي")، ليس ممالأة لهذا، أو دفاعاً عن ذاك، وإنما من باب الحذر الأكاديمي. فتحفظي كان منهجياً، لكن، مع تطور الأحداث، واتضاح الرؤية بعض الشيء بشأن ما حدث ويحدث، رأيت أن الشك المنهجي فقد إلى حد كبير مبرر وجوده، وخصوصاً أن الأحداث ليست عرضية، بل هي تعبير عن سيرورة اجتماعية وسياسية، بصرف النظر عن السياقات الوطنية، والمسارات التي اتخذتها. فضلاً عن هذا، ليست لمصطلح الربيع العربي خلفيات سياسية، تقتضي الحذر، فهو سمي هكذا عملاً بربيع الشعوب في أوروبا في منتصف القرن التاسع العاشر. وهذا مصدره.
اعتاد المراقبون والمعلقون في الغرب عموماً على استخدام "الربيع"، لتوصيف انتفاضات شعوب تثور من أجل الحرية، ومن أجل تحسين ظروف معيشتها، على طريقة ما حدث في أوروبا في 1848. حيث عرفت بعض بلدانها (فرنسا، ألمانيا، بولندا، إيطاليا، المجر...) انتفاضات شعبية عارمة ضد الملكيات، انطلقت من فرنسا في فبراير/شباط 1848 (حيث أدت الأحداث إلى سقوط الملكية وميلاد الجمهورية الثانية التي أقامت الديمقراطية مجدداً في البلاد، لكن هذه الجمهورية سقطت بعد ثلاث سنوات على يد لويس نابليون بونابرت)، لتنتقل عدواها إلى دول أوروبية أخرى. وسميت هذه الأحداث فيما بعد بربيع الشعوب، أو ربيع الثورات. ومنذ ربيع الشعوب الأوروبية المنتفضة من أجل الحرية، أصبح الربيع يُستخدم لتوصيف أحداث مماثلة. وقد أطلق إبان الحرب الباردة على محاولة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي تحرير النظام (بإدخال قواعد ليبرالية) في 1968، لكن إصلاحاته أجهضت بعد التدخل العسكري السوفياتي. وبما أن انتفاضات الربيع العربي شبيهة بما حدث في أوروبا في 1848، من حيث إنها تشترك، وإياها، في التوق إلى الحرية والكرامة الإنسانية، سميت هذه الأحداث التي انطلقت من تونس بالربيع العربي.
لكن، لماذا تُستخدم عبارة "ما يسمى بالربيع العربي" في أدبيات وصحف بعض البلدان العربية؟ يمكن تفسير هذا بمحاولة بعضهم التشكيك في ما يحدث، والتقليل من شأنه، بل ووصفه بمؤامرة غربية. والمثير للانتباه أن تهمة المؤامرة تصدر، أيضاً، عن بلدان هي الأخرى حليفة للقوى الغربية! لا جدال في أن الموقف العربي المعادي لانتفاضات الحرية يعبر، بشكل لا ريب فيه، عن هاجس العدوى، وعن تشكيك في الانتفاضات الشعبية في دول الربيع العربي ورفض شرعيتها. وبلغت "معاداة" مصطلح الربيع العربي مستويات غير معقولة في بعض البلدان التسلطية العربية، فقد برر مسئولون عن جامعات رفضهم تنظيم ندوات علمية عن الربيع العربي بحجة أن الدول التي ينتمون إليها لا "تعترف بما يسمى بالربيع العربي"! أما الموقف الرسمي للدول التسلطية من الربيع العربي فهو واضح: تحترم إرادة الشعوب العربية التي انتفضت. وهو موقف في غاية من الاستخفاف بشعوبها: لا يمكن لدول لا تحترم إرادة شعوبها أن تكترث بإرادة الشعوب الأخرى.
هناك مشكلة عربية في التعامل مع كل ما هو طارئ وجديد. إلى جانب أن تقديس التراث ترسخ، مع مرور الزمن، نوعاً من تقديس الوضع القائم، انطلاقاً من مسلمة أنه (بالضرورة) أحسن مما هو آت، تحت مبررات ومسوغات دينية، كالقائلة بطاعة أولي الأمر (مع تجاهل مسألة الشرعية التي هي قوام الحكم!). فكان أن أدت هذه العقلية المحافظة إلى سيطرة أدبيات الأهوال التي يتغير موضوعها، لكن، لا يتغير منطقها: أهوال القيامة، أهوال الشرق أوسطية، أهوال العولمة، أهوال الربيع العربي... لكن فاقد الشيء لا يمكن أن يخاف على ما يفتقر إليه أصلاً. القوى المناوئة للربيع العربي، كحركة احتجاجية تتوق للحرية وللكرامة، توهم الناس بأنه سيجلب الخراب والدمار، مستدلين بما يحدث في ليبيا وسورية. لكن هذه حتمية تاريخية، لا يمكن القبول بها. ثم إن الإيهام بأن الاستقرار التسلطي خير من الاستقرار الديمقراطي استخفاف ما بعده استخفاف.
ليست مشكلة معادي الربيع العربي في انعكاساته الأمنية (ليبيا وسورية)، وإنما في أنه أحدث نقلة نفسية لدى الشعوب العربية: انتقال الخوف من معسكر الرعية إلى معسكر الراعي. ومن هذا المنظور، أعاد الربيع العربي المشهد السياسي إلى بدايته الأولى: إما أن يتخلص الشعب من الحاكم المتسلط، أو أن يتغلب عليه (مجداً)، ويعيد إحكام قبضته الأمنية.