07 اغسطس 2024
في مسار العلاقات التركية الأميركية وراهنها
للحكم على تطورات العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، يجب وضعها في سياقها الصحيح، فالواضح أن تلك العلاقة تواجه أخيرا تحدياتٍ ضخمة، لن يمحوها الاستقبال الحار الذي حظي به الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في البيت الأبيض في 23 من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. وفي مقدمة تلك القضايا استمرار تركيا في الحصول على نظام الدفاع الجوي الروسي (إس - 400)، والتدخل التركي في شمال سورية لمواجهة قوات حماية الشعب (الكردية). وكلاهما من القضايا الخلافية، والتي تثير عاصفة من النقد الأميركي، خصوصا ضمن أروقة الكونغرس الأميركي الساعي إلى فرض عقوبات على تركيا.
أضف إلى ذلك التحديات التي مرت بها العلاقة بين البلدين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، كمطالبة تركيا الولايات المتحدة بتسليم الداعية التركي، فتح الله غولن، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، والعقوبات الاقتصادية التي فرضها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على تركيا في أغسطس/ آب 2018 لإطلاق سراح رجل دين أميركي معتقل هناك، والتي سرّعت من وتيرة أزمة الاقتصاد التركي، وتراجع العملة التركية أمام الدولار.
إلى أي مدى تمثل التحديات السابقة تقويضا للعلاقات التركية الأميركية؟ وما هي طبيعة تلك
العلاقات ومدى رسوخها في مواجهة التحديات السابقة، وبعيدا عن الخلافات الحزبية والمبالغات الإعلامية؟ هنا تجب الإشارة إلى تقرير صدر عن خدمة أبحاث الكونغرس، الذراع البحثية للكونغرس الأميركي، في يناير/ كانون الثاني الماضي، يحاول الإجابة عن الأسئلة السابقة من منظور تاريخي. إذ يقول التقرير، وعنوانه "العلاقات الأميركية التركية: سياق تاريخي مختصر"، أن تلك العلاقات مرت، منذ الحرب العالمية الثانية، بتحدّيات عديدة.
تعود العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلى 1946، حين ضغط الاتحاد السوفييتي على تركيا، بعد الحرب العالمية الثانية، لمشاركتها إدارة مضايقها المائية لأسباب استراتيجية. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال سفنها الحربية للمياه التركية، دعما للأخيرة في مواجهة موسكو في بدايات الحرب الباردة. وفي 1947، صنفت أميركا تركيا دولة مستقبلة للمساعدات المضادة للسوفييت. وفي 1952 أصبحت تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبدأت أميركا تباعا في استخدام قواعد تركيا العسكرية، والحفاظ على أعداد كبيرة ونظم أسلحة متطورة هناك. ولكن العلاقة لم تسر على الوتيرة نفسها، ففي 1974، وبعد التدخل العسكري التركي في قبرص، فرضت أميركا حظرا على تصدير الأسلحة لتركيا استمر حتى 1978. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب البادرة، أغلقت أميركا خلال عامي 1991 و1992 ثمانية من 12 قاعدة عسكرية لها في تركيا. كما أوقفت جزءا كبيرا من مساعداتها العسكرية. وفي عام 2003، صوّت البرلمان التركي برفض استخدام الولايات المتحدة قواعدها في تركيا في غزو العراق.
وضمن التوجه نفسه، يقلل تقرير صدر عن خدمة أبحاث الكونغرس في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) من تبعات الخلافات الراهنة على العلاقة بين البلدين. ويؤكد أن "موقع تركيا القريب من عدة مناطق ساخنة في العالم جعل من استمرار إتاحة أراضيها محطة لنقل الأسلحة والقوات أمرا قيّما للولايات المتحدة وحلف الناتو"، وقد ترامب عبّر، في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن ثقته في أمن "الأرصدة العسكرية" الأميركية في تركيا وسلامتها.
ويشير التقرير نفسه إلى قول خبراء إن المخاوف المتعلقة بمخاطر تشغيل تركيا لنظم الدفاع الجوي الروسية بالقرب من الطائرات الأميركية والأسلحة الغربية الموجودة على أراضيها "مبالغ فيها"، لأن قدرة نظم الدفاع الجوي الروسية على مراقبة الطائرات الأميركية لن تتغير كثيرا لو وضعت في تركيا مقارنة بوضعها في أي مكان آخر. ويضيف التقرير أن ترامب بحث مع أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي من الجمهوريين، في يوليو/ تموز الماضي، إمكانية أن تسمح أميركا لتركيا بامتلاك نظام الدفاع الروسي من دون تشغيله، على أن تتلقى، في المقابل، نظم دفاع جوي أميركية (باتريوت)، وطائرات إف - 35.
على المنوال نفسه، جاء الاستقبال الحار الذي حظي به أردوغان في البيت الأبيض، إذ وصف ترامب لقاءه أردوغان "بالرائع"، وإلى "إمكانية إيجاد حل" لقضية نظم الدفاع الروسية، وإلى رغبته في مضاعفة تجارة بلاده مع تركيا أربع مرات لتصل إلى مائة مليار دولار سنويا، كما طالب أيضا ترامب الدول الأوروبية بتحمل مزيد من تكاليف اللاجئين السوريين لتخفيف العبء عن تركيا.
ولا يعني هذا التوجه أن العلاقة بين أنقرة وواشنطن على ما يرام، فهناك تحديات حقيقية كثيرة
تواجهها، في مقدمتها استمرار تسليح أميركا ودعمها وحدات حماية الشعب (الكردية) في سورية، ورغبة تركيا المعلنة في المضي في امتلاك صواريخ إس - 400، والذي وصفه ترامب "بالتحدي الخطير" للعلاقة بين البلدين. وكذلك تطوّر علاقة تركيا بروسيا على مستويات عدة، ونبرة النقد المرتفعة ضد تركيا في الكونغرس الأميركي، وتهديدات ترامب العلنية السابقة لتركيا وطريقة إدارته العلاقة بين البلدين. كما أن من المبكر الحكم على نتائج زيارة أردوغان البيت الأبيض، على الرغم من حديثه عن الرغبة المشتركة في "فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين".
المغزى الأعمق للحقائق المتعارضة السابقة أن للعلاقات التركية الأميركية وتيرة خاصة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذه العلاقات تمر بتحديات ضخمة، كالتدخل التركي في قبرص، ورفض تركيا استخدام أراضيها في حرب العراق، ولكنها لم تصل إلى حد القطيعة أو العداء. بل استمرت العلاقة بينهما في شد وجذب مستمرّين، فالولايات المتحدة تحتاج تركيا لأسباب استراتيجية، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الاستراتيجيين، وتقاطعها مع مناطق ساخنة عديدة، كالشرق الأوسط والبلقان والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، وفي مواجهة روسيا والتمدّد الاقتصادي الصيني أيضا (تركيا محطة أساسية على طريق الحرير الذي تسعى الصين إلى إحيائه مرورا بجنوب أوروبا).
وتركيا كذلك في حاجة لأميركا أيضا لموازنة علاقاتها الأمنية والاستراتيجية بروسيا والصين، وهي التي تملك علاقات اقتصادية رئيسية مع أوروبا. ولذا عارضت ألمانيا العقوبات التي فرضها ترامب على تركيا في عام 2018، فألمانيا والدول الأوروبية لا تريد أن يتأثر الاقتصاد التركي سلبا أو ينهار. كما تعتمد تركيا على إيران وروسيا مصادر للطاقة. وتمر فيها خطوط (نفط وغاز) حالية ومستقبلية تربط مصادر طاقة رئيسية بالشرق الأوسط وروسيا بأوروبا. كما تعتمد تركيا، في نهضتها الاقتصادية، على التجارة والتصنيع بالأساس. فهي لا تمتلك مصادر طاقة ضخمة، كبعض دول الخليج. كل هذه العوامل تجعل من تركيا نقطة تلاقي مصالح دولية كثيرة وضخمة. وتجعل علاقاتها الخارجية تتسم بدرجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتشابك والاعتماد المتبادل والتنافسية كذلك.
باختصار، لكي نقيم التحديات الضخمة والعديدة التي تمر بها العلاقات التركية الأميركية حاليا،
وتأثيرها بعيد المدى، يجب أن نفهم طبيعة العلاقة بين البلدين. ليست تركيا دولة حليفة لأميركا، على غرار بعض الدول العربية التي تسير في ركب أميركا سياسيا واستراتيجيا على طول الخط، وتحرص على التقرّب من إسرائيل. كما أن تركيا ليس دولة معادية لأميركا كإيران. تركيا دولية حليفة لأميركا. ولكنها حليفة من نوع مختلف.
تركيا قوة إقليمية لها ثقل تاريخي ومكانة إقليمية تجعلها من أقطاب الشرق الأوسط الرئيسية. دولة تمتلك علاقات تاريخية وثقافية عميقة ومتشعبة، تربطها بمسلمي الصين وروسيا والبلقان. كما تنتهج سياسة اقتصادية تقوم على التجارة والتصنيع والانفتاح على الاستثمارات الدولية. وعلاقاتها الاقتصادية الأكبر مع أوروبا وليس مع أميركا. وخلال العقود الأخيرة، طورت سياسة خارجية أكثر استقلالية، ما يرشحها دوما للدخول في خلافاتٍ ساخنة مع القوى الدولية المختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، من دون أن يؤدي ذلك إلى القطيعة أو الصدام المدمر للعلاقات بين الطرفين.
إلى أي مدى تمثل التحديات السابقة تقويضا للعلاقات التركية الأميركية؟ وما هي طبيعة تلك
تعود العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلى 1946، حين ضغط الاتحاد السوفييتي على تركيا، بعد الحرب العالمية الثانية، لمشاركتها إدارة مضايقها المائية لأسباب استراتيجية. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال سفنها الحربية للمياه التركية، دعما للأخيرة في مواجهة موسكو في بدايات الحرب الباردة. وفي 1947، صنفت أميركا تركيا دولة مستقبلة للمساعدات المضادة للسوفييت. وفي 1952 أصبحت تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبدأت أميركا تباعا في استخدام قواعد تركيا العسكرية، والحفاظ على أعداد كبيرة ونظم أسلحة متطورة هناك. ولكن العلاقة لم تسر على الوتيرة نفسها، ففي 1974، وبعد التدخل العسكري التركي في قبرص، فرضت أميركا حظرا على تصدير الأسلحة لتركيا استمر حتى 1978. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب البادرة، أغلقت أميركا خلال عامي 1991 و1992 ثمانية من 12 قاعدة عسكرية لها في تركيا. كما أوقفت جزءا كبيرا من مساعداتها العسكرية. وفي عام 2003، صوّت البرلمان التركي برفض استخدام الولايات المتحدة قواعدها في تركيا في غزو العراق.
وضمن التوجه نفسه، يقلل تقرير صدر عن خدمة أبحاث الكونغرس في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) من تبعات الخلافات الراهنة على العلاقة بين البلدين. ويؤكد أن "موقع تركيا القريب من عدة مناطق ساخنة في العالم جعل من استمرار إتاحة أراضيها محطة لنقل الأسلحة والقوات أمرا قيّما للولايات المتحدة وحلف الناتو"، وقد ترامب عبّر، في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن ثقته في أمن "الأرصدة العسكرية" الأميركية في تركيا وسلامتها.
ويشير التقرير نفسه إلى قول خبراء إن المخاوف المتعلقة بمخاطر تشغيل تركيا لنظم الدفاع الجوي الروسية بالقرب من الطائرات الأميركية والأسلحة الغربية الموجودة على أراضيها "مبالغ فيها"، لأن قدرة نظم الدفاع الجوي الروسية على مراقبة الطائرات الأميركية لن تتغير كثيرا لو وضعت في تركيا مقارنة بوضعها في أي مكان آخر. ويضيف التقرير أن ترامب بحث مع أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي من الجمهوريين، في يوليو/ تموز الماضي، إمكانية أن تسمح أميركا لتركيا بامتلاك نظام الدفاع الروسي من دون تشغيله، على أن تتلقى، في المقابل، نظم دفاع جوي أميركية (باتريوت)، وطائرات إف - 35.
على المنوال نفسه، جاء الاستقبال الحار الذي حظي به أردوغان في البيت الأبيض، إذ وصف ترامب لقاءه أردوغان "بالرائع"، وإلى "إمكانية إيجاد حل" لقضية نظم الدفاع الروسية، وإلى رغبته في مضاعفة تجارة بلاده مع تركيا أربع مرات لتصل إلى مائة مليار دولار سنويا، كما طالب أيضا ترامب الدول الأوروبية بتحمل مزيد من تكاليف اللاجئين السوريين لتخفيف العبء عن تركيا.
ولا يعني هذا التوجه أن العلاقة بين أنقرة وواشنطن على ما يرام، فهناك تحديات حقيقية كثيرة
المغزى الأعمق للحقائق المتعارضة السابقة أن للعلاقات التركية الأميركية وتيرة خاصة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذه العلاقات تمر بتحديات ضخمة، كالتدخل التركي في قبرص، ورفض تركيا استخدام أراضيها في حرب العراق، ولكنها لم تصل إلى حد القطيعة أو العداء. بل استمرت العلاقة بينهما في شد وجذب مستمرّين، فالولايات المتحدة تحتاج تركيا لأسباب استراتيجية، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الاستراتيجيين، وتقاطعها مع مناطق ساخنة عديدة، كالشرق الأوسط والبلقان والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، وفي مواجهة روسيا والتمدّد الاقتصادي الصيني أيضا (تركيا محطة أساسية على طريق الحرير الذي تسعى الصين إلى إحيائه مرورا بجنوب أوروبا).
وتركيا كذلك في حاجة لأميركا أيضا لموازنة علاقاتها الأمنية والاستراتيجية بروسيا والصين، وهي التي تملك علاقات اقتصادية رئيسية مع أوروبا. ولذا عارضت ألمانيا العقوبات التي فرضها ترامب على تركيا في عام 2018، فألمانيا والدول الأوروبية لا تريد أن يتأثر الاقتصاد التركي سلبا أو ينهار. كما تعتمد تركيا على إيران وروسيا مصادر للطاقة. وتمر فيها خطوط (نفط وغاز) حالية ومستقبلية تربط مصادر طاقة رئيسية بالشرق الأوسط وروسيا بأوروبا. كما تعتمد تركيا، في نهضتها الاقتصادية، على التجارة والتصنيع بالأساس. فهي لا تمتلك مصادر طاقة ضخمة، كبعض دول الخليج. كل هذه العوامل تجعل من تركيا نقطة تلاقي مصالح دولية كثيرة وضخمة. وتجعل علاقاتها الخارجية تتسم بدرجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتشابك والاعتماد المتبادل والتنافسية كذلك.
باختصار، لكي نقيم التحديات الضخمة والعديدة التي تمر بها العلاقات التركية الأميركية حاليا،
تركيا قوة إقليمية لها ثقل تاريخي ومكانة إقليمية تجعلها من أقطاب الشرق الأوسط الرئيسية. دولة تمتلك علاقات تاريخية وثقافية عميقة ومتشعبة، تربطها بمسلمي الصين وروسيا والبلقان. كما تنتهج سياسة اقتصادية تقوم على التجارة والتصنيع والانفتاح على الاستثمارات الدولية. وعلاقاتها الاقتصادية الأكبر مع أوروبا وليس مع أميركا. وخلال العقود الأخيرة، طورت سياسة خارجية أكثر استقلالية، ما يرشحها دوما للدخول في خلافاتٍ ساخنة مع القوى الدولية المختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، من دون أن يؤدي ذلك إلى القطيعة أو الصدام المدمر للعلاقات بين الطرفين.