14 نوفمبر 2024
في مديح العزلة
تحتفي أمثالنا الشعبية العربية غالباً بثقافة التجمهر والتجمع. فهناك مثل يقول: "حشر مع الناس عيد"، ويقول مثل آخر: "جنة بلا ناس ما تنداس"، أي إن حاجتنا، نحن البشر، بعضنا إلى بعض أكبر من حاجتنا الحلمية للجنة بكل نعيمها المتخيل.
تروج هذه الأمثال كثيراً للتعبير عن أننا شعوبٌ نحب التواصل مع الآخرين، ونعتبر أي نوع من التجمع متعة، أو فرصة للسعادة بالحديث المتبادل، وإنْ على سبيل المشاكسة أو الاختلاف مثلاً. لهذا نعتبر كل عزلةٍ، حتى لو كانت اختياريةً، نوعاً من العقاب أو السجن. بل في السجن نفسه، غالباً ما يعاقبون السجين الذي يأتي بمخالفةٍ بالسجن الانفرادي، فهم يعتبرون وجوده داخل زنزانة مكتظة بالمساجين الذين يشاركهم الهواء والمساحة الضيقة والمرفق الصحي الوحيد ربما أفضل له من البقاء وحيداً في مساحةٍ خاصة له. وهذا ما لم أفهمه كلما قرأت عن حالة عقاب لسجين بزنزانة انفرادية، حتى قال لي سجين سابق تعرّض لهذا النوع من العقاب إن الأمر كان، في البداية، مزعجاً جداً، لأنك لا تجد في زنزانتك الفردية من تُحادثه طوال اليوم، حتى تكاد تنسى الكلام، فتبدأ بمواجهة نفسك بالضرورة، وهو ما يحيلك إلى تذكر كل شيء، وغالباً ما تكون الأشياء سوداوية. قال إن القرارة هي ما أنقذته من التدهور النفسي في الزنزانة الانفرادية. وأضاف: "كان لحسن الحظ معي بعض الكتب، وبدأت قراءتها، لأجد نفسي فجأة خارج تلك الزنزانة المعتمة الضيقة، بل خارج السجن نفسه. وعلى الرغم من أن الكتب التي كانت متوافرة بين يدي آنذاك ليست من النوع الذي أفضله، لكنها كانت بالفعل حياة إضافية جديدة وجميلة".
تذكرت حديثي مع ذلك السجين، وهو سجين رأي، وأنا أقرأ عن أحوال المحجوزين في المحاجر الصحية هذه الأيام، بسبب الاشتباه في إصابتهم بفيروس كورونا. كثيرون منهم يعتبرون أن البقاء في الحجر الصحي نوع من السجن، على الرغم من أن المحاجر الصحية، في البلدان الخليجية على الأقل، غالباً في فنادق بخمس نجوم ومنتجعات ومتنزهات، يسمح فيها بكل شيء، وبالتواصل الإلكتروني والهاتفي مع الخارج، وبتلقي كل ما يحتاجونه أيضاً من أسرهم وأهاليهم، لكن مجرد شعورهم بأنهم غير أحرار في الدخول والخروج يعطيهم ذلك الشعور المقيت بالسجن. ثم إن فكرة العزل والابتعاد عن الآخرين تُضاعف من ذلك الشعور، وفقاً للمفهوم العربي أن الجنة بلا ناس لا يمكن العيش فيها! وبالتالي لا يتقبلون فكرة الاستمتاع بتلك العزلة كما يعرفها عشّاقها، والعكس صحيح لعشاقها الذين يرونها جنة حقيقية.
لأنني من عشاق العزلة، وأطبقها على نفسي كلما أتيحت لي فرصة ذلك، أرى أن للعزلة، أي عزلة، فوائد أكثر من مجرّد الابتعاد عما يزعجك في هذا العالم، ومن مورد مواجهة نفسك بعيداً عن الآخرين. إنها فرصة حقيقية لاكتشاف خباياك بلا خجل ولا خوف ولا خشية من أحد أو ظرف ما. على مهلٍ، تستطيع أن تجدّد طاقتك وتنعش روحك وتنظف ذاكرتك مما علق بها طوال احتكاكها بالآخرين. تستطيع مثلاً أن تستلقي على فراشك، وتتأمل السقف، فتنهمر عليك ذكرياتك الجميلة والأليمة في الوقت نفسه، لتعيد قراءتها بسلام وحدك.
قد يعتبر هذا المديح للعزلة، في هذا الزمن الكوروني المفاجئ، نوعاً من الرفاهية، أو ربما التعالي على المحجورين في عزلتهم الاضطرارية، أو حتى المضطرّين إلى البقاء في بيوتهم تحرّزاً، واستجابة للنصائح الصحية، كما نفعل كلنا تقريباً حالياً، لكنها مناسبة وحسب. شفى الله جميع المرضى وسلمنا معهم، فما زلنا نسعى في الحشر مع الناس، بعيداً عن الجنة.
تذكرت حديثي مع ذلك السجين، وهو سجين رأي، وأنا أقرأ عن أحوال المحجوزين في المحاجر الصحية هذه الأيام، بسبب الاشتباه في إصابتهم بفيروس كورونا. كثيرون منهم يعتبرون أن البقاء في الحجر الصحي نوع من السجن، على الرغم من أن المحاجر الصحية، في البلدان الخليجية على الأقل، غالباً في فنادق بخمس نجوم ومنتجعات ومتنزهات، يسمح فيها بكل شيء، وبالتواصل الإلكتروني والهاتفي مع الخارج، وبتلقي كل ما يحتاجونه أيضاً من أسرهم وأهاليهم، لكن مجرد شعورهم بأنهم غير أحرار في الدخول والخروج يعطيهم ذلك الشعور المقيت بالسجن. ثم إن فكرة العزل والابتعاد عن الآخرين تُضاعف من ذلك الشعور، وفقاً للمفهوم العربي أن الجنة بلا ناس لا يمكن العيش فيها! وبالتالي لا يتقبلون فكرة الاستمتاع بتلك العزلة كما يعرفها عشّاقها، والعكس صحيح لعشاقها الذين يرونها جنة حقيقية.
لأنني من عشاق العزلة، وأطبقها على نفسي كلما أتيحت لي فرصة ذلك، أرى أن للعزلة، أي عزلة، فوائد أكثر من مجرّد الابتعاد عما يزعجك في هذا العالم، ومن مورد مواجهة نفسك بعيداً عن الآخرين. إنها فرصة حقيقية لاكتشاف خباياك بلا خجل ولا خوف ولا خشية من أحد أو ظرف ما. على مهلٍ، تستطيع أن تجدّد طاقتك وتنعش روحك وتنظف ذاكرتك مما علق بها طوال احتكاكها بالآخرين. تستطيع مثلاً أن تستلقي على فراشك، وتتأمل السقف، فتنهمر عليك ذكرياتك الجميلة والأليمة في الوقت نفسه، لتعيد قراءتها بسلام وحدك.
قد يعتبر هذا المديح للعزلة، في هذا الزمن الكوروني المفاجئ، نوعاً من الرفاهية، أو ربما التعالي على المحجورين في عزلتهم الاضطرارية، أو حتى المضطرّين إلى البقاء في بيوتهم تحرّزاً، واستجابة للنصائح الصحية، كما نفعل كلنا تقريباً حالياً، لكنها مناسبة وحسب. شفى الله جميع المرضى وسلمنا معهم، فما زلنا نسعى في الحشر مع الناس، بعيداً عن الجنة.