في مديح الرمادي

12 نوفمبر 2015
أن تكون رماديّاً.. ليس بالأمر السيئ أبداً! (Getty)
+ الخط -
كلّما احتجتُ إلى لون يناسب كلّ المناسبات، يطلّ الرمادي بأناقته الخاصة، يمسح عن وجهه الأسود الكالح، ويرطب روحه ببعض أبيض، يتباهى بخيط فضيّ يلوّن جبهته، حتى أنني غالباً ما أخلط بين اللونين، دائماً أختار الرمادي وأقول الفضي، ليجيبني البائع بأنّه رمادي..


رمادي، ما المانع!؟ هو لون يناسب جميع الأعمار، وتتواءم معه كلّ الألوان، لون مسالم أليف يرضى بقليل الحبّ ويمنح الكثير، نعم سأختار القميص الرمادي، مع بنطال من الجينز الرمادي أيضاً، وحذاء أسود، سأكسر ألفة الرمادي بعقد أحمر تتوسطه حجرة فضّيّة أو رماديّة.
ألم نتفق أنّ الرمادي هو الفضيّ السيئ الحظ!
أناقة الرمادي ستجعلني أنثى فضيّة الهوى!

أذكر الآن تلك النار التي أشعلناها في الموقد ببعض حطب، ففي مدينة كحلب تعدّ التدفئة بالحطب ترفاً أيضاً، رغم كلّ الرماد الذي تتركه تلك النار، سيكون دفئها حميمياً، بعد أن هدأت النار، دسست حبتي كستناء في حضن الرماد، قليلاً من الوقت وأخرجت إحداها شهيّة طريّة، ولكنّ الرماد يغطيها، بدأت بنقلها بين يديّ حتى تبرد، غشيني الرماد، وخضّب أصابعي، تركت الكستناء، وعدت طفلةً عابثة، وبدأت بفرك الرماد بأصابعي، وكأنّه يتضاعف بهذه العملية على أطراف أصابعي، رحت ألون به ورقة بيضاء كانت بجانبي، رسمت به قمراً رمادياً في سماء بيضاء، بدت اللوحة فاتنة، تخيلت السماء بهذا الشكل، فركت أصابعي مجدداً بحبّة الكستناء الأخرى، ورسمت على الورقة غيوماً رماديّة، هذه الغيوم ستكون حبلى بمطر سخيّ رائق.

نظرت إلى يديّ وقد صارتا بلون الرماد، غامرت في تمرير الرماد على أظافري.. أعجبني طلاء الأظافر الرمادي، ربّما سيكون موضة الموسم القادم لو رأوا أناقته، خطر لي أن أخلطه ببعض الماء لأصنع كحلاً رماديّاً، مسحت وجهي ببعضه، وبدوت بعد النظر إلى المرآة كالهنود الحمر، ينقصني نار أدور حولها، ولكنّ تلك النار خبت، وخلّفت رماداً صنعت بعض الفرح به!

جدتي كانت تمتلك عينين رماديتين، كنت كلّما تطلعت في عينيها أسألها عن سرّ عينيها الصغيرتين الفاتنتين، عن سرّ الفضة المزروعة فيهما، أخبرتني أنّها كانت تديم النظر إلى القمر، وهي تهمس له "أعرني فضتك وخذ قلبي" حتى تسللت فضّته إلى عينيها البنيتين، وصارتا بذاك اللون!

حفظت التعويذة، وأعجبتني فكرة المقايضة تلك، ورحت أديم النظر إليّه كلّما تسلل ضياؤه من شبّاك غرفتي الصغير، ولكنّه كان بخيلاً لم يمنحني رماداً ولا فضّة، أو ربّما لم أحفظ التعويذة كما يجب، فقد بقيت عيناي بلون الأرض بنية تغشاها بقعة عسليّة سقطت من نحلة قرصتني ذات يوم.

عندما شكوت بخل القمر لجدتي ضحكت ضحكتها الجميلة، وسعلت سعالاً متقطعاً، ثمّ هدأت وحضنتني، وقالت بأنّها تمزح، وعندما سألتها عن شعرها الرمادي اللامع قالت لي: سيصير لون شعرك رمادياً، وستكرهينه يوماً ما!

لا أعلم الآن وقد لمحت مرّة شعرة رماديّة في شعري، إن كنت قد كرهتها لأنّها بداية لغزوة بيضاء، أو أنني أحببتها لأنّها ذكرتني بشعر جدتي، ما أعرفه أنني فكرت بلون باهت يميل للرمادي قد أصبغ شعري البنيّ به يوماً!

مرّة أخبرت أحدهم بأنني أنبذ القتل، وأكره كلّ حامل سلاح، وأرفض أن أصنف مع جهة ما، فقال بأنني رمادية، قالها بنبرةٍ حادة، وكأنّها تهمة.. ولكنني تخيلت نفسي رماديّة، يشعّ لوني كقمر باهت، وربّما أسرّب في العتمة ظلّ نور يتسلل إلى قلب أحد ما..

مع ذلك الوصف، أطلّ القميص الرمادي الذي أحبّ الجميع أناقته المفرطة، وأطلّت حبّة الكستناء الطريّة، ومرح الطفولة في ذلك اليوم، أطلّ القمر البخيل الذي ضنّ عليّ بفضّته، أطلت عينا جدتي، وشعرة رماديّة أخبرتني بأنّ عمري تسع وعشرون سنة، وحرب!

أن تكون رماديّاً فأنت في زاوية القمر تجلس، وعلى حافة فضته تتلون روحك برماد عاشق للحب والحكايات!
أن تكون رماديّاً.. ليس بالأمر السيئ أبداً!

(سورية)
دلالات
المساهمون