14 نوفمبر 2024
في كلفة الصراع السعودي الإيراني
الصراع السعودي الإيراني مرشح لأن يأخذ أبعادا أخرى، على ضوء ما يعرفه من تحولات عقب استقالة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، وعدوله "المتريث عنها، وحالة الانسداد التي وصل إليها الملف اليمني، وتشبث الرياض وطهران بمواقفهما، وإصرارهما على المضي في محاولة التأثير في أحداث المنطقة.
وإذا كان هذا الصراع لا ينفصل عن سياقاته الإقليمية والدولية المركبة التي يظل محكوما بها، فإن له واجهة أخرى على صلة بديناميات الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلدان المنطقة، حيث يسهم، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في زيادة منسوب التوتر فيها، ويستنزف ثرواتها ويبدّدها في استقطاب مذهبي وطائفي مكلف، هذا في وقتٍ يُفترَضُ أن تُوجه الإمكانات المالية والاقتصادية التي يستثمرها الطرفان في هذا الاستقطاب نحو مشاريع التحديث والتنمية والبناء.
وتعود مساحةٌ لا يستهان بها من التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي ترزح تحته هذه البلدان، إلى الصراعات الإقليمية التي تتخبط فيها المنطقة منذ عشرات السنين، وهي صراعات دفعت الشعوب، ولا تزال، ثمنها من استقرارها الأهلي والاجتماعي. ولعل أبرزها الصراع السعودي الإيراني، والذي ظل، منذ قيام الثورة الإسلامية، محكوما بتباين رؤية البلدين للوضع الإقليمي. فبينما عمل حكم الملالي في طهران على تصدير مبادئ هذه الثورة وشعاراتها إلى بلدان المنطقة، رأت العربية السعودية في ذلك تهديدا لنفوذها الروحي والسياسي، وضربا للاستقرار الإقليمي الذي تعمل على رعايته بما يخدم استراتيجيتها المحافظة.
أسهمت المتغيرات الحاصلة في العقدين الأخيرين، خصوصا بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، واندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، وعودة المسألة الطائفية بقوة إلى واجهة الأحداث، أسهمت في جعل هذا الصراع يتجاوز طوره الجيو سياسي إلى طور طائفي ومذهبي، تتواجه من خلاله الطائفتان السنية والشيعية في احترابٍ يهدّد البناء الاجتماعي لمجتمعات المنطقة. ولعل ما يعمّق هذا الصراع، ويعطيه أبعادا دراماتيكية أخرى غياب أي استعداد من الطرفين لحل خلافاتهما بالتفاوض، والتوصل إلى تفاهماتٍ تجنب المنطقة مخاطر الانجرار نحو التعصب المذهبي والطائفي والأهلي، ما يعني أن هذا الصراع، على الرغم من طابعه السياسي، بات يتغذّى، بشكل ملفت ومثير، على موارد التخلف الكامنة في البنيات الاجتماعية والثقافية التقليدية.
وعلى الرغم من التباين الشديد في السرديتين، السعودية والإيرانية، لما يجب أن تكون عليه المنطقة، إلا أنهما تشتركان في العمل على استثمار هذه البنيات لترسيخ سلطة التقليد، وترويج تأويلات وقراءات وثوقية للتاريخ الإسلامي، ونشر بذور التطرّف الفكري والمذهبي والديني، ومناهضة قيم الحرية والحداثة والتنوير، في الوقت الذي تبدو فيه بلدان المنطقة في أمسّ الحاجة لتعاقدات اجتماعية جديدة، تقطع مع الاستبداد والسلطوية والفساد والتصلب المذهبي والتطرّف الديني، وتفتح أوراشا حقيقية للإصلاح والتحديث والتنمية والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
تعمل الرياض وطهران جاهدتيْن على التحكّم في لعبة النفوذ والقوة الإقليميين، أو على الأقل التأثير في مجرياتها. ولا شك أنهما تدركان الطبيعة العشائرية والقبلية والطائفية لبلدان المنطقة. ولذلك تسعيان إلى تحويل ذلك إلى مصدر لتغذية عوامل التوتر والاضطراب. من هنا، تصبح هذه البلدان، المعروفة بتوازناتها الأهلية والطائفية والسياسية الهشّة، ''امتدادا حيويا'' للمواجهة السعودية الإيرانية، بما يعنيه ذلك من تعطيلٍ لمسارات تطورها العام.
تحتاج الأنظمة التقليدية دائما لجرعاتٍ من التحديث المؤسساتي الشكلي الذي يخدم رؤيتها التقليدية للدولة والمجتمع، فإيران، وعلى الرغم من أنها سبقت السعودية في هذا الصدد، بالسماح بحد أدنى من التنافس الحزبي والسياسي داخل النظام المنبثق من الثورة الإسلامية، إلا أن التركيبة الفكرية والسياسية لهذا النظام تكشف عن طائفيته المترسبة في فكر سياسيٍّ، يؤالف بين نزعة قومية فارسية وشيعية سياسية أرثوذوكسية. ولذلك، يعمل على توظيف جزء كبير من موارده البشرية والاقتصادية من أجل تنفيذ مخططاته التوسعية في المنطقة، بالمراهنة على الشيعة العرب، باعتبارهم مخزونا احتياطيا، يمكن أن يتحولوا، في أي لحظة، إلى ورقةٍ للمناورة بيد طهران، خصوصا في العراق والبحرين ولبنان.
في المقابل، ينبني نظام الحكم في السعودية، وإن ظل عقودا طويلة محكوما بشرعية سياسية تقليدية، على الفكر الوهابي المحافظ بكل امتداداته الثقافية والاجتماعية، إلا أن استمرار التمدّد الإيراني فرض عليه إعادة النظر في مجمل سياساته الداخلية والإقليمية. ومن هنا، يمكن فهم ''الأفق'' الإصلاحي الذي فتحه محمد بن سلمان داخل المملكة، باعتباره يندرج ضمن استراتيجيته لمواجهة الغريم الإيراني والتصدي لمخططاته، ذلك أن محاولة تغيير صورة الحكم في السعودية لدى الرأي العام الدولي بالحد من نفوذ القوى الوهابية المحافظة، ومكافحة الفساد، من شأنها، حسب الرياض، أن تربك إيران وتبعثر أوراقها.
استمرارُ هيمنة المحافظين على صناعة القرار في طهران، والمستجدّات في الرياض بعد تنصيب محمد بن سلمان وليا للعهد، ودعمُ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، له، واحتمالُ بروز ميادين جديدة للمواجهة بين البلدين، وغيابُ أجنحة معتدلة مؤثرة في البلدين، عواملُ كلها تجعل كلفة هذا الصراع كبيرة على كل الأصعدة.
وإذا كان هذا الصراع لا ينفصل عن سياقاته الإقليمية والدولية المركبة التي يظل محكوما بها، فإن له واجهة أخرى على صلة بديناميات الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلدان المنطقة، حيث يسهم، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في زيادة منسوب التوتر فيها، ويستنزف ثرواتها ويبدّدها في استقطاب مذهبي وطائفي مكلف، هذا في وقتٍ يُفترَضُ أن تُوجه الإمكانات المالية والاقتصادية التي يستثمرها الطرفان في هذا الاستقطاب نحو مشاريع التحديث والتنمية والبناء.
وتعود مساحةٌ لا يستهان بها من التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي ترزح تحته هذه البلدان، إلى الصراعات الإقليمية التي تتخبط فيها المنطقة منذ عشرات السنين، وهي صراعات دفعت الشعوب، ولا تزال، ثمنها من استقرارها الأهلي والاجتماعي. ولعل أبرزها الصراع السعودي الإيراني، والذي ظل، منذ قيام الثورة الإسلامية، محكوما بتباين رؤية البلدين للوضع الإقليمي. فبينما عمل حكم الملالي في طهران على تصدير مبادئ هذه الثورة وشعاراتها إلى بلدان المنطقة، رأت العربية السعودية في ذلك تهديدا لنفوذها الروحي والسياسي، وضربا للاستقرار الإقليمي الذي تعمل على رعايته بما يخدم استراتيجيتها المحافظة.
أسهمت المتغيرات الحاصلة في العقدين الأخيرين، خصوصا بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، واندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، وعودة المسألة الطائفية بقوة إلى واجهة الأحداث، أسهمت في جعل هذا الصراع يتجاوز طوره الجيو سياسي إلى طور طائفي ومذهبي، تتواجه من خلاله الطائفتان السنية والشيعية في احترابٍ يهدّد البناء الاجتماعي لمجتمعات المنطقة. ولعل ما يعمّق هذا الصراع، ويعطيه أبعادا دراماتيكية أخرى غياب أي استعداد من الطرفين لحل خلافاتهما بالتفاوض، والتوصل إلى تفاهماتٍ تجنب المنطقة مخاطر الانجرار نحو التعصب المذهبي والطائفي والأهلي، ما يعني أن هذا الصراع، على الرغم من طابعه السياسي، بات يتغذّى، بشكل ملفت ومثير، على موارد التخلف الكامنة في البنيات الاجتماعية والثقافية التقليدية.
وعلى الرغم من التباين الشديد في السرديتين، السعودية والإيرانية، لما يجب أن تكون عليه المنطقة، إلا أنهما تشتركان في العمل على استثمار هذه البنيات لترسيخ سلطة التقليد، وترويج تأويلات وقراءات وثوقية للتاريخ الإسلامي، ونشر بذور التطرّف الفكري والمذهبي والديني، ومناهضة قيم الحرية والحداثة والتنوير، في الوقت الذي تبدو فيه بلدان المنطقة في أمسّ الحاجة لتعاقدات اجتماعية جديدة، تقطع مع الاستبداد والسلطوية والفساد والتصلب المذهبي والتطرّف الديني، وتفتح أوراشا حقيقية للإصلاح والتحديث والتنمية والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
تعمل الرياض وطهران جاهدتيْن على التحكّم في لعبة النفوذ والقوة الإقليميين، أو على الأقل التأثير في مجرياتها. ولا شك أنهما تدركان الطبيعة العشائرية والقبلية والطائفية لبلدان المنطقة. ولذلك تسعيان إلى تحويل ذلك إلى مصدر لتغذية عوامل التوتر والاضطراب. من هنا، تصبح هذه البلدان، المعروفة بتوازناتها الأهلية والطائفية والسياسية الهشّة، ''امتدادا حيويا'' للمواجهة السعودية الإيرانية، بما يعنيه ذلك من تعطيلٍ لمسارات تطورها العام.
تحتاج الأنظمة التقليدية دائما لجرعاتٍ من التحديث المؤسساتي الشكلي الذي يخدم رؤيتها التقليدية للدولة والمجتمع، فإيران، وعلى الرغم من أنها سبقت السعودية في هذا الصدد، بالسماح بحد أدنى من التنافس الحزبي والسياسي داخل النظام المنبثق من الثورة الإسلامية، إلا أن التركيبة الفكرية والسياسية لهذا النظام تكشف عن طائفيته المترسبة في فكر سياسيٍّ، يؤالف بين نزعة قومية فارسية وشيعية سياسية أرثوذوكسية. ولذلك، يعمل على توظيف جزء كبير من موارده البشرية والاقتصادية من أجل تنفيذ مخططاته التوسعية في المنطقة، بالمراهنة على الشيعة العرب، باعتبارهم مخزونا احتياطيا، يمكن أن يتحولوا، في أي لحظة، إلى ورقةٍ للمناورة بيد طهران، خصوصا في العراق والبحرين ولبنان.
في المقابل، ينبني نظام الحكم في السعودية، وإن ظل عقودا طويلة محكوما بشرعية سياسية تقليدية، على الفكر الوهابي المحافظ بكل امتداداته الثقافية والاجتماعية، إلا أن استمرار التمدّد الإيراني فرض عليه إعادة النظر في مجمل سياساته الداخلية والإقليمية. ومن هنا، يمكن فهم ''الأفق'' الإصلاحي الذي فتحه محمد بن سلمان داخل المملكة، باعتباره يندرج ضمن استراتيجيته لمواجهة الغريم الإيراني والتصدي لمخططاته، ذلك أن محاولة تغيير صورة الحكم في السعودية لدى الرأي العام الدولي بالحد من نفوذ القوى الوهابية المحافظة، ومكافحة الفساد، من شأنها، حسب الرياض، أن تربك إيران وتبعثر أوراقها.
استمرارُ هيمنة المحافظين على صناعة القرار في طهران، والمستجدّات في الرياض بعد تنصيب محمد بن سلمان وليا للعهد، ودعمُ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، له، واحتمالُ بروز ميادين جديدة للمواجهة بين البلدين، وغيابُ أجنحة معتدلة مؤثرة في البلدين، عواملُ كلها تجعل كلفة هذا الصراع كبيرة على كل الأصعدة.