31 أكتوبر 2024
في سؤال النكبة: لماذا تركت الأرنبة وحيدة؟
كلما قرأت سؤال محمود درويش لأبيه الذي يختزل "النكبة": لماذا تركت الحصان وحيداً؟ انثالت على رأسي ذكريات "النكسة"، حين تركنا أرنبتنا وحيدة في بيتنا في مخيم طولكرم، حين اندلعت حرب النكسة، 1967، ولجأنا إلى الجبال المجاورة لمدينة طولكرم، هرباً من قصف الطائرات الإسرائيلية، وحينما عدنا، وجدنا الأرنبة وقد أصيبت ببعض الشظايا.
وما بين سؤال الحصان والأرنبة، تختبئ رواية مغلوطة، ألحقت "العار" بالفلسطيني، لأنه ترك بيته لليهود، وهرب، وقبل أن يصدقها العربي الذي عاب على أخيه تهاونه، صدّقها الفلسطيني نفسه الذي وقع، هو الآخر، ضحية الأكاذيب والجهل، والدعاية الصهيونية العالية.
لماذا ننبش هذه المسألة، الآن، والفلسطينيون "يحيون" ذكرى نكبتهم السابعة والستين؟ وما الفرق بين أن يكون الفلسطيني هُجّر أو هاجر؟ الفرق كبير، فهذا الأمر أرّق قادة الصهاينة مبكراً، لأن التهجير الجماعي والإبادة الجماعية جريمتا حرب، لا تسقطان بالتقادم، وسلاح دولي ماضٍ يمكن استعماله بفاعلية، حين تعزّ الأسلحة الأخرى، خصوصاً أن "سلطة" الفلسطينيين الوطنية اختارت السلاح "السلمي" السياسي طريقاً، وخياراً وحيداً لـ "التحرير". وهنا، تحديداً تبرز أهمية هذا السلاح الذي يستدعي التاريخ، وروايته الأخرى، خصوصاً إذا جاءت عبر وثائق "الدولة" التي ارتكبت جريمة التهجير الجماعي، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
الرواية الإسرائيلية "الحقيقية" لعملية التهجير الجماعي، أعلنت، قبل نحو عامين ونيف، حين نشرت صحيفة هآرتس يوم الخميس 16 مايو/ أيار 2013، عرضا لمستند، أفرجت عنه الدوائر الرسمية، وسُمح بعرضه أمام الجمهور، يتضمن مداولات حكومة بن غوريون عام 1961 في شأن "الرواية الإسرائيلية" لتلك الأحداث الواجب تسويقها للعالم، ليكف الأخير عن "الادعاء" بأنه تم تهجير الفلسطينيين. كتب العرض الكاتب في الصحيفة، شاي حزقاني، وترجمه آنذاك أسعد تلحمي، مراسل صحيفة النهار اللبنانية في الناصرة. يتحدث الكاتب، في بداية عرضه، عن مضمون ذلك المستند عن حقيقة أنه بعد الصدى الكبير الذي أحدثه "المؤرخون الجدد" (تعبير خاص بمؤرخين إسرائيليين جاءوا بدراسات جديدة عن نكبة 1948 وقيام إسرائيل، دحضت مسلّماتٍ اعتمدتها الرواية الإسرائيلية الرسمية، في مقدمها أن الفلسطينيين رحلوا بمعظمهم عن منازلهم وقراهم، بمحض إرادتهم، أو استجابةً لنداءات زعماء عرب). تقرر إغلاق الأرشيف الذي يتطرق إلى "ترحيل الفلسطينيين أثناء الحرب (1948) وإلى المذابح التي نفذت بحقهم، وجرائم الاغتصاب التي ارتكبها جنود إسرائيليون وسائر الأحداث التي ترى فيها المؤسسة الحاكمة محرجة، وتم تصنيفها كلها سرية للغاية". ويقول إن المستند الذي "أفلت" من أعين المؤسسة هو الذي يحمل عنوان "الهروب عام 1948"، وتم وضعه أوائل ستينيات القرن الماضي "في محاولة لتعزيز الرواية الإسرائيلية لأحداث عام 1948 وتغليفها بغلاف أكاديمي".
ولهذا طلب بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، من "أبرز المؤرخين والمستشرقين من موظفي الدولة توفير أدلة تثبت أن الفلسطينيين هربوا في ذلك العام، ولم يتم ترحيلهم".
وطبقاً للمستند، أراد بن غوريون استباق "رواية فلسطينية" عن الأحداث، متوقعاً أن تكون هذه القضية في صلب المعركة الدبلوماسية التي تنتظر إسرائيل في الحلبة الدولية (لم يحدث شيء من هذا)، كما رأى أنه، في حال نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية في إقناع العالم بأنه حصلت عملية تهجير لنحو 700 ألف فلسطيني، سيرى المجتمع الدولي في مطالبتهم بالعودة إلى وطنهم عادلة، "بينما إذا تركوا أو هربوا طوعاً، أو أقنعهم زعماء العرب بالمغادرة، ليعودوا، لاحقاً، بعد الانتصار على إسرائيل، فإن العالم سينظر بشكل مغاير إلى مطلب العودة". وفق الكاتب، المستندات التي تم الكشف عنها في الماضي، واعتمدها المؤرخون الإسرائيليون الجدد، وإن لم يتم الكشف عن مستندات أخرى كثيرة، أفادت بأنه تم تهجير أهالي 120 قرية فلسطينية على الأقل (من مجموع 530 تم هدمها لاحقاً) على يد القوات العسكرية اليهودية، بينما هرب سكان نصف عدد القرى منها، ليبتعدوا عن المعارك. لكن، لم يُسمح لهم بالعودة، وفقط في بعض القرى، استجاب السكان لنداءات من زعامات عربية بالمغادرة، للعودة لاحقاً بعد انتهاء الحرب والانتصار على إسرائيل. وتابع الكاتب أن هذه الأرقام كانت وراء مخاوف بن غوريون من رواية فلسطينية عن تهجير وترحيل، ويقتنع العالم بها.
وقد لمس بن غوريون ضغطاً من الرئيس الأميركي في حينه، جون كيندي، لإقناع إسرائيل بإعادة 20-30 ألف لاجئ إلى ديارهم، وأن الأمم المتحدة ستعقد جلسة لبحث قضية اللاجئين. ولهذا، عقد اجتماعاً طارئاً في مكتبه، بحضور كبار وزرائه، لبحث سبل تخفيف الضغوط، معتقداً أنه يمكن حل المشكلة من خلال "إعلام جيد وصحيح" (هذا ما حصل فعلا) يقنع العالم بأن الفلسطينيين هربوا، ولم يرحَّلوا، مضيفاً أن "غالبية الفلسطينيين، باستثناء فلسطينيي اللد والرملة، تركت قراها قبل قيام إسرائيل"، إلا أن الحاضرين لم يقتنعوا بحديث بن غوريون، وكانوا على قناعة بناء على التفاصيل التي في حوزتهم أن حديثه "أقل ما يقال فيه إنه ليس دقيقاً". وساقت مثالاً على ذلك أن وزير الزراعة في حينه، موشيه ديان، كان شخصياً وراء إصدار الأوامر بترحيل بدو النقب، "لكنه لم يكن ممكناً أن يدحض أقوال رئيس حكومته"، وتقرر، في الاجتماع، التوجه إلى مركز أبحاث أكاديمي، ليقوم بمهمة إعداد "الرواية الإسرائيلية" بداعي أن تقريره سيلقى احترام قرائه في العالم، كونه صادراً عن مركز أكاديمي.
لكن العنوان الذي حدده بن غوريون للمركز، وهو "جمع معلومات عن نزوح العرب"، أعطى عملياً مؤشراً واضحاً إلى المركز إلى الاستنتاجات التي يريدها بن غوريون، إذ لم يُطلب إعداد بحث عن "أحداث عام 1948" إنما قرر مسبقاً أن ما حصل نزوح وليس تهجيراً، وما على الباحثين سوى تقديم إثباتات لذلك. وفعلاً، كانت هذه خلاصة استنتاجات الباحثين، لكن، يتبين، اليوم، من المستند أن الباحثين كانوا "موظفي دولة"، وأنهم تلقوا المستندات مباشرة من أجهزة المخابرات التي كانت صاحبة القرار في الكشف أو عدمه عن هذا المستند أو ذاك، أي أنه تم تلقينهم وإمدادهم بالمواد التي "تثبت" الرواية، كما أرادها بن غوريون. ويقرّ أحد المشاركين في البحث المذكور، في حديث مع "هآرتس"، أنه "لم يُسمح له، ولأترابه، بمعاينة مجموعة من المستندات، خصوصاً التي تضمنت بروتوكولات جلسات الحكومة في أثناء الحرب التي تناولت، ضمن موضوعات أخرى، نزوح الفلسطينيين، وأحياناً طردهم على يد الجيش الإسرائيلي"!
هذه صفحة مطوية من أهم حدث في "النكبة"، بعد أن وقعنا جميعاً، نحن العرب، ضحية للرواية الصهيونية، وقد قيل لي من بعض أصدقاء محمود درويش، إن سؤاله الشهير لوالده، لماذا تركت الحصان وحيداً، كان نوعا من العتاب المتأثر بالرواية الإسرائيلية، ويبدو أنه حان الوقت لجحافل المفاوضين الفلسطينيين أن يضعوا هذا الملف على قائمة أولوياتهم، ليذهبوا به إلى محكمة الجنايات الدولية، لإسناد "حق العودة" بالقانون الدولي الإنساني، ما داموا اختاروا طريق النضال السياسي، خياراً وحيداً لاستنقاذ الحق الفلسطيني.
لماذا ننبش هذه المسألة، الآن، والفلسطينيون "يحيون" ذكرى نكبتهم السابعة والستين؟ وما الفرق بين أن يكون الفلسطيني هُجّر أو هاجر؟ الفرق كبير، فهذا الأمر أرّق قادة الصهاينة مبكراً، لأن التهجير الجماعي والإبادة الجماعية جريمتا حرب، لا تسقطان بالتقادم، وسلاح دولي ماضٍ يمكن استعماله بفاعلية، حين تعزّ الأسلحة الأخرى، خصوصاً أن "سلطة" الفلسطينيين الوطنية اختارت السلاح "السلمي" السياسي طريقاً، وخياراً وحيداً لـ "التحرير". وهنا، تحديداً تبرز أهمية هذا السلاح الذي يستدعي التاريخ، وروايته الأخرى، خصوصاً إذا جاءت عبر وثائق "الدولة" التي ارتكبت جريمة التهجير الجماعي، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
الرواية الإسرائيلية "الحقيقية" لعملية التهجير الجماعي، أعلنت، قبل نحو عامين ونيف، حين نشرت صحيفة هآرتس يوم الخميس 16 مايو/ أيار 2013، عرضا لمستند، أفرجت عنه الدوائر الرسمية، وسُمح بعرضه أمام الجمهور، يتضمن مداولات حكومة بن غوريون عام 1961 في شأن "الرواية الإسرائيلية" لتلك الأحداث الواجب تسويقها للعالم، ليكف الأخير عن "الادعاء" بأنه تم تهجير الفلسطينيين. كتب العرض الكاتب في الصحيفة، شاي حزقاني، وترجمه آنذاك أسعد تلحمي، مراسل صحيفة النهار اللبنانية في الناصرة. يتحدث الكاتب، في بداية عرضه، عن مضمون ذلك المستند عن حقيقة أنه بعد الصدى الكبير الذي أحدثه "المؤرخون الجدد" (تعبير خاص بمؤرخين إسرائيليين جاءوا بدراسات جديدة عن نكبة 1948 وقيام إسرائيل، دحضت مسلّماتٍ اعتمدتها الرواية الإسرائيلية الرسمية، في مقدمها أن الفلسطينيين رحلوا بمعظمهم عن منازلهم وقراهم، بمحض إرادتهم، أو استجابةً لنداءات زعماء عرب). تقرر إغلاق الأرشيف الذي يتطرق إلى "ترحيل الفلسطينيين أثناء الحرب (1948) وإلى المذابح التي نفذت بحقهم، وجرائم الاغتصاب التي ارتكبها جنود إسرائيليون وسائر الأحداث التي ترى فيها المؤسسة الحاكمة محرجة، وتم تصنيفها كلها سرية للغاية". ويقول إن المستند الذي "أفلت" من أعين المؤسسة هو الذي يحمل عنوان "الهروب عام 1948"، وتم وضعه أوائل ستينيات القرن الماضي "في محاولة لتعزيز الرواية الإسرائيلية لأحداث عام 1948 وتغليفها بغلاف أكاديمي".
ولهذا طلب بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، من "أبرز المؤرخين والمستشرقين من موظفي الدولة توفير أدلة تثبت أن الفلسطينيين هربوا في ذلك العام، ولم يتم ترحيلهم".
وقد لمس بن غوريون ضغطاً من الرئيس الأميركي في حينه، جون كيندي، لإقناع إسرائيل بإعادة 20-30 ألف لاجئ إلى ديارهم، وأن الأمم المتحدة ستعقد جلسة لبحث قضية اللاجئين. ولهذا، عقد اجتماعاً طارئاً في مكتبه، بحضور كبار وزرائه، لبحث سبل تخفيف الضغوط، معتقداً أنه يمكن حل المشكلة من خلال "إعلام جيد وصحيح" (هذا ما حصل فعلا) يقنع العالم بأن الفلسطينيين هربوا، ولم يرحَّلوا، مضيفاً أن "غالبية الفلسطينيين، باستثناء فلسطينيي اللد والرملة، تركت قراها قبل قيام إسرائيل"، إلا أن الحاضرين لم يقتنعوا بحديث بن غوريون، وكانوا على قناعة بناء على التفاصيل التي في حوزتهم أن حديثه "أقل ما يقال فيه إنه ليس دقيقاً". وساقت مثالاً على ذلك أن وزير الزراعة في حينه، موشيه ديان، كان شخصياً وراء إصدار الأوامر بترحيل بدو النقب، "لكنه لم يكن ممكناً أن يدحض أقوال رئيس حكومته"، وتقرر، في الاجتماع، التوجه إلى مركز أبحاث أكاديمي، ليقوم بمهمة إعداد "الرواية الإسرائيلية" بداعي أن تقريره سيلقى احترام قرائه في العالم، كونه صادراً عن مركز أكاديمي.
لكن العنوان الذي حدده بن غوريون للمركز، وهو "جمع معلومات عن نزوح العرب"، أعطى عملياً مؤشراً واضحاً إلى المركز إلى الاستنتاجات التي يريدها بن غوريون، إذ لم يُطلب إعداد بحث عن "أحداث عام 1948" إنما قرر مسبقاً أن ما حصل نزوح وليس تهجيراً، وما على الباحثين سوى تقديم إثباتات لذلك. وفعلاً، كانت هذه خلاصة استنتاجات الباحثين، لكن، يتبين، اليوم، من المستند أن الباحثين كانوا "موظفي دولة"، وأنهم تلقوا المستندات مباشرة من أجهزة المخابرات التي كانت صاحبة القرار في الكشف أو عدمه عن هذا المستند أو ذاك، أي أنه تم تلقينهم وإمدادهم بالمواد التي "تثبت" الرواية، كما أرادها بن غوريون. ويقرّ أحد المشاركين في البحث المذكور، في حديث مع "هآرتس"، أنه "لم يُسمح له، ولأترابه، بمعاينة مجموعة من المستندات، خصوصاً التي تضمنت بروتوكولات جلسات الحكومة في أثناء الحرب التي تناولت، ضمن موضوعات أخرى، نزوح الفلسطينيين، وأحياناً طردهم على يد الجيش الإسرائيلي"!
هذه صفحة مطوية من أهم حدث في "النكبة"، بعد أن وقعنا جميعاً، نحن العرب، ضحية للرواية الصهيونية، وقد قيل لي من بعض أصدقاء محمود درويش، إن سؤاله الشهير لوالده، لماذا تركت الحصان وحيداً، كان نوعا من العتاب المتأثر بالرواية الإسرائيلية، ويبدو أنه حان الوقت لجحافل المفاوضين الفلسطينيين أن يضعوا هذا الملف على قائمة أولوياتهم، ليذهبوا به إلى محكمة الجنايات الدولية، لإسناد "حق العودة" بالقانون الدولي الإنساني، ما داموا اختاروا طريق النضال السياسي، خياراً وحيداً لاستنقاذ الحق الفلسطيني.