رغم التغطية الإعلامية اليومية لما تشهده سورية، منذ خمس سنوات، من عمليات قتل وتدمير وتعذيب وتهجير، إلا أنه لا يمكن الإحاطة بكل جوانب هذه المأساة المستمرة، منذ خمس سنوات، حيث مناطق عدة لا يمكن الوصول إليها إعلامياً، حتى الآن، سواء تلك الخاضعة لسيطرة قوات النظام أم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بينما تزدهر الأخبار المفبركة والتي لا يمكن التأكد من صحتها من جميع الأطراف.
يحدث، هذا اليوم، حيث تتوفر أحدث وسائل الاتصال والأقمار الصناعية وإمكانية البث المباشر لما يحدث في أية بقعة من الأرض؛ فلنا تخيل الصورة قبل 36 عاماً حين وقعت الأحداث الرهيبة في مدينة حماة السورية، والتي أسفرت عن تدمير شبه كامل للمدينة وتهجير كثير من سكانها وقتل عشرات الآلاف، ومثلهم ما زالوا من المفقودين حتى الآن.
وقائع المذبحة التي بدأت في 2 فبراير/ شباط 1982 واستمرت 27 يوماً متواصلة، بدأت بتطويق المدينة البالغ عدد سكانها آنذاك نحو 750 ألف نسمة وعزلها عن العالم وقطع وسائل الاتصال عنها ومنع دخول وخروج أي من سكانها. بعدها تم قصفها بالمدفعية واجتياحها عسكرياً، بقيادة العقيد رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل، حافظ الأسد، والذي حاول لاحقاً التنصل من علاقته بما جرى ملقياً المسؤولية على ما قال، إنها لجنة أمنية بقيادة رئيس أركان الجيش، العماد حكمت الشهابي، ونائبه علي أصلان، إضافة إلى عضو القيادة القطرية، وليد حمدون.
وتشير التقارير التي نشرتها الصحافة الأجنبية عن تلك المجزرة إلى أن النظام منح القوات العسكرية التي اجتاحت المدينة صلاحيات مطلقة لتدمير المدينة وقتل سكانها. ويقدر عدد تلك القوات بنحو 8 آلاف جندي، مكونة من وحدات من "سرايا الدفاع" بقيادة رفعت الأسد، و"القوات الخاصة" بقيادة، علي حيدر، فضلاً عن قطع من الجيش من سلاحي الدبابات والمشاة، وعناصر من الأمن والحزب، صلاحيات.
وحسب منظمة العفو الدولية فقد تعرضت أحياء المدينة القديمة في حماة للقصف جواً وبراً كي يتمكن الجنود من دخول شوارعها الضيقة بدباباتهم. وعلى سبيل المثال سُوّيَ حي الحضرة بالأرض عقب اقتحامه بالدبابات، خلال الأيام الأربعة الأولى من الاجتياح، برغم أن عدد المسلحين في كل أنحاء المدينة كان بحسب تصريح لوزير داخلية النظام آنذاك، عدنان دباغ، نحو 300 فقط. وكان النظام يقول، إن هؤلاء تابعون لجماعة "الإخوان المسلمين" وهو ما نفته الجماعة لاحقاً، مؤكدة أنها لم تتبن يوماً خيار العنف في معارضتها للنظام، وأن عناصر الطليعة المقاتلة الذين كانوا في حماة لا ينتمون إليها.
وبحسب تقارير صحافية وحقوقية وشهادات بعض الناجين من المجزرة، فإن القوات التي دخلت المدينة داهمت المنازل واحداً تلو الآخر، وقامت بحملات اعتقال وإعدام جماعية، وتم تدمير أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها، ومنها حي الكيلانية الذي لم يعد موجوداً اليوم، وحي البارودية، وحي الزنبقي، وحي الشمالية. كما تم هدم 88 مسجداً وثلاث كنائس، وقصر فريد بيك العظم الأثري، وبيت الحاج سليم الصليعي الأثري.
ويروي أحد الناجين من المجزرة ويدعى، عبدالهادي الراواني، في تصريحات صحفية أنه في الأسبوع الثالث من الهجوم على حماة، دعا الجيش السكان إلى حضور مهرجان جماهيري حاشد تأييداً للنظام. وبحسب رواية الراواني، قامت قوات الأمن بقتل أعداد كبيرة ممن آثروا البقاء داخل منازلهم بدلاً من المشاركة في تلك التظاهرة.
وتفاوتت التقديرات بشأن العدد الإجمالي للضحايا جراء هذه المجازر، وتراوحت التقديرات بين 10 آلاف إلى 40 ألف قتيل. وتحدث الإعلامي البريطاني، روبرت فيسك، الذي وصل إلى المدينة بعد وقت قصير من وقوع المجزرة، عن 20 ألف قتيل، بينما نقل الإعلامي الأميركي توماس فريدمان، عن رفعت الأسد، أنه تباهى بقتل 38 ألفاً. ويقدر أن هناك 15 ألفاً ما زالوا مفقودين بينما نزح عن المدينة أكثر من 100 ألف من سكانها بعد فك الحصار عنها.
مجزرة حماة التي طويت كثير من قصصها بوفاة أصحابها، سبقها مجازر في مدن سورية أخرى في سياق سياسة الترهيب التي اتبعها حافظ الأسد لقمع التحركات الاحتجاجية التي ألقى النظام بالمسؤولية عنها على جماعة الإخوان المسلمين، وحكم في مرسوم رئاسي عام 1980 على كل من ينتمي إليها بالإعدام، وذلك عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها الأسد يوم 26 يونيو/ حزيران 1980. وجاء رد الأسد على هذه المحاولة سريعاً، ودون رحمة، حيث قام بإعدام ما يقارب 1200 معتقل في سجن تدمر أغلبهم من الإسلاميين.
وتلا ذلك سلسلة من "المجازر الصغيرة" قبل الوصول الى مجزرة حماة، ومنها مثلاً مجزرة جسر الشغور بريف إدلب في العاشر من مارس/ آذار 1980، حيث قصفت المدينة بمدافع الهاون وأطلقت النيران على 97 من أهاليها بعد إخراجهم من دورهم، كما تم هدم ثلاثين بيتاً فيها.
ومجزرة سرمدا التي قتل فيها حوالى 40 شخصاً، ومجزرة حي المشارقة في حلب حيث قتلت قوات النظام صبيحة عيد الأضحى 83 مواطناً، ومجزرة سوق الأحد التي أودت بحياة 42 شخصاً وجرح 150 آخرين، ومجزرة الرقة التي راح ضحيتها عشرات المواطنين الذين لقوا حتفهم حرقاً بعدما جمع المعتقلون في مدرسة ثانوية وأضرمت النيران حولهم.
غير أن ما جرى في حماة كان علامة فارقة في تاريخ سورية الحديث، حيث تمكن الأسد من كسر شوكة أية معارضة داخلية لنظامه لثلاثة عقود مقبلة بالاعتماد على "درس حماة"، الذي أراد نظام الأسد جعله ماثلاً أمام أعين كل من يفكر في معارضة نظامه، ليتبع ذلك عقود من الوصاية الأمنية على البلاد، وقمع الحريات، وتكميم الأفواه.
ومع انفجار المنطقة العربية مع موجة الربيع العربي، الذي بدأ من تونس، كان الجميع يدرك، (باستثناء النظام الذي ظن أن درس حماة سيكون أبدياً)، أن قطار الثورة على الأنظمة المستبدة لا بد أن يمر بسورية التي تعد واحدة من الأنظمة الشمولية العريقة في المنطقة والعالم.
ولم تختلف الأساليب التي اتبعها نظام الأسد الابن عن تلك التي اتبعها والده من قبل، بل فاقتها قمعاً وترهيباً، ليس على يد قوات النظام نفسها وحسب، بل استعان بشار الأسد بقوات أجنبية من كل أصقاع الأرض، واستخدم كل ما بحوزته من أسلحة تدمير وقتل من طيران حربي الى الأسلحة الكيماوية.
وبعد اندلاع الثورة السورية في الشهر الثالث من عام 2011، كان مفهوماً أن تشهد حماة بعد أشهر قليلة، وتحديداً في الشهر السابع من ذلك العام، أكبر مظاهرة مناهضة للنظام شارك فيها مئات الآلاف، غير أنها قمعت بشدة، وقتل في ذلك اليوم العشرات من أبناء المدينة برصاص قوات الأمن. وتبع ذلك، مجازر كثيرة في أنحاء البلاد بالقصف والرصاص والتعذيب والتجويع.
وكما نجا الأب بفعلته بعد رحيله دون محاسبة، وإقامة بطل مجزرة حماة، رفعت الأسد، حتى الآن في أوروبا متنعماً بالأموال التي سرقها من الشعب السوري، ولكن الأصوات تعلو اليوم محذرة من أن بشار الأسد وعصبته قد ينجون بأفعالهم أيضاً، إذا استمر الصمت الدولي، والذي يقترب من حالة التواطؤ حيال ما يقوم به النظام والمليشيات التي استقدمها بحق الشعب السوري، من جرائم والتي تتم غالباً على أساس طائفي.
وإذا كان العالم تذرع في أحداث حماة بأنه لم يكن على علم بها بسبب التعتيم الذي فرضه النظام آنذاك، فإن مجازر اليوم تتم على مسمع ومرأى الجميع.