03 نوفمبر 2024
في ذكرى رحيل المستبدّ
بعد أيام، تحل الذكرى الرابعة للثورة التونسية، يوم أن أقلعت الطائرة الرئاسية بعد ظهر يوم 14 يناير/كانون الثاني سنة 2011، ليصبح زين العابدين بن علي لاجئاً مع زوجته، في حماية قيادة المملكة العربية السعودية. فشلت كل محاولاته للضغط على بعض رجاله القدامى، عساهم يخافون ويبحثون له عن طريق تعيده إلى الجنة التي ضاعت منه، وطواها الزمن في لحظة غباء وغطرسة وعناد. وهي ثلاث صفات مهلكة للسلطان، تقوّض عرشه وتزيل ملكه، مهما بدا واثقاً من قدرته على مسك زمام أموره. ويبدو أنه وعى الدرس متأخراً جداً، وأدرك أنه خرج من التاريخ والجغرافيا إلى الأبد، محاولاً إقناع نفسه بأنه كان ضحية مؤامرة غادرة، كما ورد في كتاب زوجته "هذه حقيقتي".
يلجأ معظم الجبابرة الذين فقدوا حكمهم إلى نظرية تآمر أطراف داخلية وخارجية عليهم. وبلغ الأمر بستالين إلى الشك حتى في أطبائه، حين توهم أنهم يعملون على قتله. لا يستطيع هؤلاء أن يخضعوا أنفسهم للتقييم والنقد والمراجعة، ليفهموا أين أخطأوا، ويكتشفوا بأنفسهم أسباب الانهيار الكبير الذي أخرجهم من اللعبة التي كانوا، قبل لحظات، يتحكمون في تفاصيلها، بعد أن وضعوا قواعدها بأنفسهم. فـ"بن علي" لم يصل إلى السلطة إلا بالتآمر والانقلاب. ولهذا، لازمته، طوال حكمه، عقدة الخوف من التآمر والانقلاب.
مع ذلك، يمكن أن نتفهم الحيرة التي أصابت بن علي وعائلته لفهم ما حصل. فكل الذين حاولوا، ولا يزالون، فهم ما حدث في ذلك اليوم الاستثنائي، يجدون أنفسهم أمام عشرات الأسئلة التي تفتقر إلى اليوم لإجابات مقنعة. فحتى الجنرال علي السرياطي، مدير الأمن الرئاسي، الذي شكت في أمره السيدة الأولى السابقة، لأنه صور لها ولزوجها الوقائع التي تسابقت بسرعة يوم الرحيل وكأنها "نهاية العالم"، حسب تعبيرها، لا يستطيع أن يدرك، الآن، لماذا فعل ذلك. فهو، بحكم تكوينه العسكري والمخابراتي، وبحكم أن مهمته تقتضي منه حماية الرئيس، بلغ به الخوف من المعلومات التي تصل إليه، تباعاً، عن توسع رقعة الاحتجاجات والمظاهرات والغضب الشعبي، إلى درجة إقناع ليلى بن علي بالسفر العاجل إلى السعودية، لأداء العمرة والعودة بعد أيام، عندما تهدأ الأوضاع. ولم يكتف بذلك، بل نجح في إقناع الرئيس بمصاحبة عائلته حتى تتضح الرؤية. لكنه بعد أن أدى هذه المهمة بنجاح، وجد نفسه رهن الاعتقال بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي، وارتكاب الاعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح، وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي".
حدث الاعتقال بتعليمات من وزير الدفاع، رضا غريرة، الذي وجد نفسه، بعد فترة وجيزة، في السجن، وينتظر محاكمة استمرت طويلاً. وفي الأثناء، يحتجز قائد فرقة مكافحة الإرهاب جزءا مهماً من أسرة الطرابلسية، ويمنعهم من السفر، لتبدأ سلسلة طويلة من محاكماتهم. ومن جهة أخرى، يجبر نائب السرياطي في الأمن الرئاسي الوزير الأول يومها، محمد الغنوشي، ورئيس مجلس النواب، فؤاد المبزع، على ملء الفراغ، وتحمل مسؤولياتهم الدستورية في تلك اللحظات الرهيبة. وقس على ذلك عشرات الوقائع التي لا يجمع بينها رابط واحد، ولا يخضع الذين قاموا بها إلى تنسيق مسبق، لكن النتيجة كانت واحدة، هي انهيار المنظومة الأمنية والسياسية بسرعة قياسية، أدت إلى ما انتهت إليه الأمور، وغيّرت المشهد السياسي بكامله في تونس.
أحمد بن صالح، الوزير الذي شغل التونسيين طوال الستينيات، وكلفه الحبيب بورقيبة بخمس حقائب وزارية مجتمعة، لثقته القوية فيه، قبل أن تتأزم العلاقة بينهما، بسبب انهيار التجربة الاشتراكية. لم يتمكن هذا السياسي المخضرم من أن يستوعب ما حصل لـ"بن علي"، واكتفى بالقول أخيراً: ما تم في تونس تدخل إلهي.
يلجأ معظم الجبابرة الذين فقدوا حكمهم إلى نظرية تآمر أطراف داخلية وخارجية عليهم. وبلغ الأمر بستالين إلى الشك حتى في أطبائه، حين توهم أنهم يعملون على قتله. لا يستطيع هؤلاء أن يخضعوا أنفسهم للتقييم والنقد والمراجعة، ليفهموا أين أخطأوا، ويكتشفوا بأنفسهم أسباب الانهيار الكبير الذي أخرجهم من اللعبة التي كانوا، قبل لحظات، يتحكمون في تفاصيلها، بعد أن وضعوا قواعدها بأنفسهم. فـ"بن علي" لم يصل إلى السلطة إلا بالتآمر والانقلاب. ولهذا، لازمته، طوال حكمه، عقدة الخوف من التآمر والانقلاب.
مع ذلك، يمكن أن نتفهم الحيرة التي أصابت بن علي وعائلته لفهم ما حصل. فكل الذين حاولوا، ولا يزالون، فهم ما حدث في ذلك اليوم الاستثنائي، يجدون أنفسهم أمام عشرات الأسئلة التي تفتقر إلى اليوم لإجابات مقنعة. فحتى الجنرال علي السرياطي، مدير الأمن الرئاسي، الذي شكت في أمره السيدة الأولى السابقة، لأنه صور لها ولزوجها الوقائع التي تسابقت بسرعة يوم الرحيل وكأنها "نهاية العالم"، حسب تعبيرها، لا يستطيع أن يدرك، الآن، لماذا فعل ذلك. فهو، بحكم تكوينه العسكري والمخابراتي، وبحكم أن مهمته تقتضي منه حماية الرئيس، بلغ به الخوف من المعلومات التي تصل إليه، تباعاً، عن توسع رقعة الاحتجاجات والمظاهرات والغضب الشعبي، إلى درجة إقناع ليلى بن علي بالسفر العاجل إلى السعودية، لأداء العمرة والعودة بعد أيام، عندما تهدأ الأوضاع. ولم يكتف بذلك، بل نجح في إقناع الرئيس بمصاحبة عائلته حتى تتضح الرؤية. لكنه بعد أن أدى هذه المهمة بنجاح، وجد نفسه رهن الاعتقال بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي، وارتكاب الاعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح، وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي".
حدث الاعتقال بتعليمات من وزير الدفاع، رضا غريرة، الذي وجد نفسه، بعد فترة وجيزة، في السجن، وينتظر محاكمة استمرت طويلاً. وفي الأثناء، يحتجز قائد فرقة مكافحة الإرهاب جزءا مهماً من أسرة الطرابلسية، ويمنعهم من السفر، لتبدأ سلسلة طويلة من محاكماتهم. ومن جهة أخرى، يجبر نائب السرياطي في الأمن الرئاسي الوزير الأول يومها، محمد الغنوشي، ورئيس مجلس النواب، فؤاد المبزع، على ملء الفراغ، وتحمل مسؤولياتهم الدستورية في تلك اللحظات الرهيبة. وقس على ذلك عشرات الوقائع التي لا يجمع بينها رابط واحد، ولا يخضع الذين قاموا بها إلى تنسيق مسبق، لكن النتيجة كانت واحدة، هي انهيار المنظومة الأمنية والسياسية بسرعة قياسية، أدت إلى ما انتهت إليه الأمور، وغيّرت المشهد السياسي بكامله في تونس.
أحمد بن صالح، الوزير الذي شغل التونسيين طوال الستينيات، وكلفه الحبيب بورقيبة بخمس حقائب وزارية مجتمعة، لثقته القوية فيه، قبل أن تتأزم العلاقة بينهما، بسبب انهيار التجربة الاشتراكية. لم يتمكن هذا السياسي المخضرم من أن يستوعب ما حصل لـ"بن علي"، واكتفى بالقول أخيراً: ما تم في تونس تدخل إلهي.