في دلالات الانتخابات الأوروبية

02 يونيو 2019

(Getty)

+ الخط -
مرّت قبل أيام الدورة التاسعة من الانتخابات الأوروبية، التي كانت استثنائية عكس المحطات السابقة؛ فقد جرت في سياق محلي مأزوم (انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، اللجوء والهجرة، الإسلاموفوبيا..)، وسياق دولي قوامه فقدان البوصلة والاضطراب والصراع السياسي، والتنافس على النفوذ بين الكبار (أميركا، الصين، روسيا).
أسفرت الانتخابات التي شارك فيها أزيد من 435 مليون مواطن أوروبي، في الدول 28 المنضوية في الاتحاد الأوروبي، قصد اختيار 751 نائباً لعضوية البرلمان الأوروبي لدورة تمتد خمس سنوات، عن نتائج دالّة وغير متوقعة، تكشف التحول الكبير في المزاج العام الأوروبي، وسيكون لها تأثير كبير في حياة الشعوب الأوروبية، وفي دور الاتحاد الأوروبي وطبيعة حضوره في السياسة الدولية والعلاقات بين تكتلات العالم وأقطابه الكبرى. وهي نتائج من شأنها أن ترسم خريطة سياسية جديدة للقارّة الأوروبية، عقب تواضع (وأحياناً تراجع) أداء الأحزاب التقليدية في معظم دول الاتحاد، مقابل تقدم واضح للأحزاب الشعبوية والقومية والمتطرفين المشككين في خيار الوحدة الأوروبية (أحزاب بريكست البريطاني والحرية النمساوي والحرية الهولندي والتجمع الوطني الفرنسي والرابطة الإيطالي).
تشكل نسبة المشاركة المرتفعة، قياساً إلى الدورة السابقة (43%)، إذ اقتربت من 51%؛ بزيادة بلغت ثماني نقاط عن دورة 2014، أول مؤشر على مركزية هذه الدورة الانتخابية في أعين الأوروبيين. مسجلة بذلك ثاني أعلى نسبة في تاريخ هذه الانتخابات، بعدما وصل معدل الإقبال إلى نسبة 62% عام 1979، في أول انتخابات أوروبية شهدتها "المجموعة 
الأوروبية" التي كانت تضم حينها تسع دول فقط.
تؤكد هذه الانتخابات أن موجة الجنوح نحو الشعوبية والتطرّف التي كانت، حتى وقت قريب، حكراً على مناطق وبلدان بعينها، سرعان ما أخذت بعداً عالمياً، عقب وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بأجندةٍ، ظن كثيرون أنها بلا حاضنة في الشارع، لكن سرعان ما أثبث الواقع عكس ذلك. وبهذا تكون موجة التطرف عالمية، وإن تعدّدت أشكالها بين تأييد اليمين سياسياً في أوروبا وأميركا، والجنوح نحو التطرّف العنيف (تنظيم داعش، سفاح نيوزيلندا، اعتداءات سريلانكا...).
كانت محطة هذه الانتخابات فرصةً مواتية أمام الناخب الأوروبي، لإسقاط الثنائية الحزبية (اليمين/ اليسار، المحافظين/ الاشتراكيين) القائمة في البرلمان طوال أربعين عاماً، بعدما منح القوميين والشعوبيين والليبراليين والخضر تمثيلية أكبر في البرلمان، على حساب الكتل التقليدية التي فقدت مجتمعة أكثر من 80 مقعداً؛ فخسرت كتلة "الحزب الشعبي" (180 مقعداً) نحو 43 مقعداً، وكتلة "الديمقراطيين والاشتراكيين" (145 مقعداً) نحو 39 مقعداً، معلناً بذلك نهاية المشهد السياسي الكلاسيكي للبرلمان في ستراسبورغ.
لم يكن تصويت جزء كبير من الأوروبيين لصالح القوميين والمتطرّفين من باب الاقتناع، والإيمان الإيديولوجي بمواقف هذه الأحزاب وتوجهاتها، بقدر ما هو عقاب لها، وانتقام من الحكومات التي لم تكن إنجازاتها مرضية. بذلك يكون عجز الساسة عن الوفاء بوعودهم للمواطنين وراء الاختيار السيئ للشعوب الأوروبية، من دون أدنى تفكير في مآلاته وتبعاته على القارّة العجوز.
تتزامن هذه التحولات داخل المؤسسة التشريعية الأوروبية، مع مساعي القوى الكبرى في العالم نحو إعادة تشكيل خريطة العالم، برغبة روسيا في استعادة موقعها القديم، واحتدام الصراع بين واشنطن وبكين، ما دفع الأوروبيين إلى العمل على رصّ الصفوف بالرهان على صناعة عسكرية موحدة، والرغبة في تأسيس جيش أوروبي موحد، والرقي بالاقتصاد لضمان البقاء في ساحة اللاعبين الكبار، لكن هذه الأحلام بدأت تتلاشى، في ظل تقدّم الفكر السياسي المعادي للوحدة الأوروبية.
صحيح أن مخرجات الصناديق تؤكد أن البرلمان الأوروبي مقبلٌ على تركيبةٍ، أقرب ما تكون إلى الفسيفساء منها إلى تكتلاتٍ سياسيةٍ ذات مرجعية موحدة. بصيغة أخرى، نقول إن البرلمان الأوروبي سائر نحو طريقٍ أكثر تفتتاً، وغرقاً في تسوياتٍ ومساوماتٍ بين هذه الأطياف والكتل.
ما يعني أن تهديد مستقبل الوحدة الأوروبية لا يزال بعيداً، فمن ناحيةٍ تبقى الأغلبية، على الرغم 
من خسائر الوسط، بيد أنصار الوحدة ومؤيديها، متى أخذنا بالاعتبار التقدّم المهم لحزبي الخضر والليبراليين. ومن ناحية أخرى، يبقى انتصار أحزاب اليمين المتطرّف (فرنسا وإيطاليا وبريطانيا) بسقفٍ محدود، لما بين هذه الأحزاب من فروق واختلافات، تجعل مسألة توحيد الصفوف صعبة جداً، وعلى فرض أنها تحقّقت فستبقى بعيدةً عن تحقيق أغلبية في مقاعد البرلمان.
واضح إذاً أن هذه القوى لم تتمكّن من الاكتساح في هذا النزال الانتخابي، ومن ثم بسط سيطرتها على البرلمان الأوروبي، كما كانت تتوقع بعض استطلاعات الرأي. لكنها تبقى بمثابة تمرينٍ أو استعدادات أولية من أجل الانتقال نحو اكتساح البرلمان الوطني في كل دولة على حدة، كما وقع مع اليمين القومي المتطرّف في إيطاليا بزعامة ماتيو سالفيني.
وبذلك تبقى رسالة التأييد المتصاعد لليمين المتطرّف واضحة، وأن المعارضين للوحدة الأوروبية في تزايد؛ لا يهم إن كان ذلك بالاقتناع أو بالانتقام، لا فرق. ما يعزّز المخاوف بشأن انهيار الاتحاد الأوروبي، بعد الخروج المجهول لبريطانيا منه، إذ إن صعود قوى اليمين والقوميين، قد يغري مزيداً من الدول الأوروبية بتكرار السيناريو، والبدء بالحراك اللازم، من أجل المطالبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
ما يثير تساؤلاً حول بداية العدّ العكسي في الاتحاد، فبعدما ظل يستقبل الأعضاء الجدد عقوداً، ربما حان الوقت للشروع الآن في توديعهم، ما سوف يؤدي لا محالة إلى أفول نجمه وانهياره.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري