في حاجة اللغة العربية إلى قوانين تحميها

26 يناير 2019
+ الخط -
وصف مقال الزميل معن البياري في "العربي الجديد" يوم 17/1/2019 "قبل قانون حماية اللغة العربية في قطر... وبعده"، أوضاع اللغة العربية في أوطانها بالكارثية. ويتفق صاحب هذه السطور مع هذا، فهو "زعم لا مبالغة فيه، ليس فقط من حيث النفوذ المهول الذي عليه اللغة الإنكليزية في غير بلد عربي، والفرنسية في بلاد المغرب العربي..."، ناهيك عما تعانيه اللغة الأم في الفضاء العربي العام رسميا، وقطاعا خاصا، وشارعا، وألواحا إشهارية، ووسائل إعلام مرئية ومسموعة، وغيرها، فلا يكاد، والحال هذه، صوت حافظ إبراهيم يغادرنا، وهو يتحسّر على مآل اللغة العربية في زمنٍ كان للحرف قيمة، وما بالنا بثورته على المتقاعسين بحقها من حكوماتٍ ومؤسساتٍ قوميةٍ وأبنائها غير المبالين بحالها، وهي تستغيث:
فلا تكلوني للزمان فإنني/ أخاف عليكم أن تحين وفاتي.
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة/ وكم عز أقوام بعز لغاتِ
أشار المقال إلى هول الانتهاكات التي تتعرّض لها اللغة العربية على ألسنة أبنائها، ورسم الهجمة التي قد تأتي على كل مشتقاتها وألفاظها وقواعدها، وهي اللغة التي كتب عنها العالم الفرنسي، إرنست رينان، أنها "بدأت فجأةً على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشرية، فليس لها طفولة ولا شيخوخة". ووصفها العالم الألماني فريتاغ بأنها "أغنى لغات العالم". وهذا ما يتفق مع قول العالم وليم ورك "إن للعربية لينا ومرونة يمكنانها من التكيف وفقا لمقتضيات العصر".
هل ندرك نحن، أبناء هذه الأمة، كيف ينظر الآخر إلى لغتنا، وكيف زاد إقبال أبنائه على تعلمها خمسة أضعاف في العقد الأخير، في حين تواجه اللغة العربية في أوطانها أزمةً حقيقية، جعلتها مهدّدة، إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، بهزّات عنيفة، تصل أحيانا إلى حد الدونية للذين يتحدّثون العربية السليمة.
تجابه اللغة العربية محنة كبرى في أوطانها، فما هي جهود الدول والحكومات العربية للحد
منها؟ أُعلن في الدوحة، يوم 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، عن "قانون بشأن حماية اللغة العربية"، أصدره أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لتكون قطر الدولة الخليجية الأولى التي سن فيها قانون له قوته العقابية والإجرائية، ويعمل على إنقاذ اللغة العربية وحمايتها وصونها مما هي فيه. واستند القانون إلى المادة الأولى للدستور القطري، وينص في مواده الخمس عشرة على إلزامٍ واضح باللغة العربية في التسميات والمكاتبات والإعلانات والعلامات التجارية و... (مع جواز الكتابة بغيرها)، ويتضمن القانون عقوبات بغرامات على من يخالفه، تصل إلى خمسين ألف ريال قطري (حوالي 14 ألف دولار)، وبذلك نكون أمام قانون ملزم هو الأول خليجيا وعربيا.
وقد جاء مقال معن البياري على أنه صدر في الأردن في العام 2016 قانون مماثل، وأن هناك مطالبات في مصر بقانون شامل وواف، وأن قانونا مماثلا ما زال مطروحا أمام البرلمان المغربي، تقدمت به الكتلة النيابية لحزب العدالة والتنمية في ديسمبر/ كانون الأول 2017، وهنالك جهود في السعودية وسورية، ولكنها لم تصل إلى قوانين إجرائية ملزمة.
تلك بعض الجهود والإجراءات القُطرية لحماية اللغة العربية، والحفاظ عليها، من مجمل التحديات التي تجابهها، فهل من جهود وإجراءات قومية في هذا المجال، على مستوى مؤسسات العمل العربي المشترك (جامعة الدول العربية ومنظماتها المتخصصة مثلا)، والتي يفترض، تبعا لمواثيقها ودساتيرها التأسيسية، أن تكون حارسة للهوية، حيث تعد اللغة المقوم الأساس لهذه الهوية، ومرتكزها المعرفي الحافظة ملامح الإنسان العربي وفكره وشخصيته ومصالحه؟
وفي بحث عن ملامح السياق المؤسساتي لمشروع وضع سياسة لغوية عربية، جاء في قرار لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة في دمشق (رقم 435 بتاريخ 30-3-2008) أن من الضروري "وضع الخطط والسياسات اللغوية لتمكين اللغة العربية والحفاظ عليها من التحديات التي تواجهها في ظل العولمة". وتنفيذا لهذا القرار، أطلقت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وهي إحدى المنظمات العربية المتخصصة، "مشروع النهوض باللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة"، حددت له أهدافا مرجوّة، تتمحور حول وضع "سياسةٍ لغويةٍ قوميةٍ"، متناسقةٍ مع "سياسات وطنية"، فضلا عن إقرار "خطط" لتنفيذها من خلال "برامج قومية ووطنية". واستنادا إلى هذه الوثيقة، يتضح أن وضع سياسة قومية
 للغة العربية يتنزل في سياق رسمي، إذ تدعمه، في منطلقه، مقرّرات سياسية من أعلى مستوى، كما في قرارات مؤتمر قمة دمشق (2008)، وتعضده توصياتٌ وتنقيحاتٌ تم اعتمادها ضمن البرامج الرسمية العربية وقممها، ومؤتمرات وزراء الثقافة والتربية والتعليم العرب. وقد أكدت كل البيانات العربية أن المسألة اللغوية في مقدمة أولويات السياسات الوطنية، كما دعت إلى دعم لغتنا وإصدار التشريعات المناسبة للارتقاء باستعمالاتها.
المهم في هذه القرارات والإجراءات القومية أنها تؤكّد على أن اللغة العربية كائنٌ حيويٌّ، وجسر ممدود للتواصل، ومعبرٌ لا غنى عنه في اتجاه التنمية الشاملة المستدامة، لا يمكن أن تكون إلا واقعةً في مسترسل البناء والإصلاح والتأصيل والاستشراف. كما تُجمع هذه القرارات القومية على أن اللغة العربية تواجه تحدياتٍ حضاريةً حادة، كما تعاني من مشكلاتٍ، أبرزها الضعف اللغوي، وهي تحتاج اهتمام جميع الأطراف المعنية لإيجاد الحلول لقضاياها. وينبغي، في هذا السياق، ترقية استخدامها، وتطوير استعمالاتها، وتوطين المعرفة بها، ونشرها عبر المناهج التربوية والتعريب والترجمة، مع ما يستوجب هذا كله من توفير موارد بشرية ومالية لتنفيذ برامج إصلاحها. وعمليا، حدّدت وثيقة مشروع النهوض باللغة العربية لمنظمة الألكسو وسائل لذلك، منها: إنشاء مراصد للغة العربية في كل بلد عربي، ووكالة للتنسيق بينها، وبعث خلايا اليقظة اللغوية لاستعمال العربية في الإدارة وأجهزة الدولة والمؤسسات المالية والاقتصادية ووسائل الإعلام، وإنشاء مركز بحوث في كل بلد عربي يُعنى بالمعالجة الإعلامية للغة العربية. والأهم التوصية الخاصة بسنّ قوانين ملزمة بأن تكون العربية لغة كل الوثائق الإدارية في كل المجالات، وقوانين أخرى تُلزم المؤسسات بأن تكون نسبة استعمال العربية فيها لا تقل عن 70%، علاوةً على إصدار قوانين ملزمة لاستعمال العربية لغة أولى في الملصقات وواجهات المحلات العمومية والخاصة.
وفي المحصلة، يمكن القول إن التشريعات القومية على أعلى مستوى قد سنّت رسميا على 
مستوى القمة العربية، وعبر مؤسسات العمل العربي المشترك، وهي قراراتٌ لم تلتزم بتنفيذها كل الدول العربية الأعضاء، باستثناءات، منها قطر والأردن، وتونس أخيرا في قرار بلدية العاصمة بإلزام استعمال اللغة العربية فقط في المعلقات الإشهارية والتجارية في المحلات، وفي الدوائر الإدارية التابعة لها. يضاف إلى ذلك أن سنوات ما بعد ثورات الربيع العربي شهدت انفجاراتٍ، في بعض الدول العربية، للهويات واللغات (دول المغرب العربي خصوصا)، وقد اعتبرت الجزائر، مثلا، الأمازيغية لغة ثانية. والقول هنا إن قضية اللغة العربية في أوطانها يجب أن تصبح قضية رأي عام، تتضافر فيها جهود الحكومات والمجتمع المدني، وكذلك جهود الغيورين من أبناء هذه اللغة، والمنتصرين لهويتهم وانتمائهم العربي. والمأمول أن تنسج بقية الدول العربية على منوال قطر، فتبادر بإصدار القوانين الملزمة والرادعة، من أجل صيانة اللغة الأم وحمايتها.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي