في حاجة الجزائر إلى الدولة المدنية

29 ابريل 2019
+ الخط -
يقول أرسطو: "ولقد كان الناس من ذي قبل يرضون أن يتناوبوا في المناصب الحكومية، وأن يدعوا غيرهم بالتعاقب يدبرون مصالحهم الشخصية، كما كان يسبق لهم في عهد رئاستهم، أن يسهروا على مصالح الغير. وأما الآن، فهم يبغون أن يحتفظوا بالحكم دون انقطاع، طمعاً بما تغنمهم المصالح العامة والرئاسة من المرابح. وكأني بولاة الأمور مصابين بمرض مزمن، لا يتأتى لهم دوام النجاة منه، إلا إذا لبثوا في الحكم". (السياسات، ص 133). ما الذي يسوّغ الاستشهاد بهذا القول، وبعض البلدان العربية تعرف "موجةً ثانيةً من الربيع العربي" تحاول اقتلاع حكم العسكر، أو النظام الديكتاتوري، أو حكم القلة، وتتظاهر الجماهير السودانية والجزائرية منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر من أجل تحقيق هذا الهدف؟
إذا كانت الجماهير المتظاهرة في السودان تعبّر بصراحة ووضوح عن مطلبها في الحق بالحكم المدني، بما هو مغاير لحكم العسكر، فإن الأمر بالنسبة للجماهير الجزائرية ونخبها ليس بهذه الصورة من الوضوح والجلاء. لذا، فإن ما تحاول تقديمه هذه المقالة يتناول الحالة الثورية في الجزائر تحديداً، بطرح سؤال يبدو للوهلة الأولى بديهاً: ما هو المطلب الأساسي الذي تريد الجماهير الجزائرية ونخبها تحقيقه؟ تعدد الشعارات المعبِّرة عن المسيرات المليونية لم يمنع أبداً من تصدر شعار واحد وأساسي هو "تروحوا قاع"، أي يذهب النظام كله، وعلى رأسه رموزه المتمثلة في قياداته الكبرى. كما أننا نقرأ إسهاماتٍ نظريةً، كتب كثيرٌ منها باللغة الفرنسية، وقليلها بالعربية، بشأن المسائل العديدة التي تطرحها هذه الحالة الثورية، المتميزة بجميع المقاييس الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإن أغلب تلك الإسهامات النظرية يدعو إلى ما اصطلح عليه "الجمهورية الثانية" التي لم تتضح بعد معالمها بقدرٍ كافٍ، يجعلنا ندرك بوضوح الهدف الأساسي من كل هذه الحركة الثورية القائمة الآن في المجتمع الجزائري.
نعم، ما تعمل من أجله المسيرات، بمختلف أشكالها وأحجامها، هو تفكيك النظام القائم المتصلب، والمطالبة برئاسة مستقلة، وحكومة كفاءات وطنية، وهيئة مستقلة لمراقبة الانتخابات المقبلة، الرئاسية والتشريعية. ولا شك في أن هذه المطالب (التقنية)، في حال تحققها، ستعيد إلى 
الشعب الجزائري سيادته، وحقه في اختيار ممثليه وقادته، ولو مؤقتاً. وهو ما يعني أن الجماهير ونخبها متفقة ضمنياً على ضرورة إقامة الحكم المدني، أو بالأحرى الدولة المدنية، بما هي مغايرة للحكم العسكري. ولا يختلف اثنان في أن الجزائر منذ استقلالها عام 1962، كانت ولا تزال تخضع لأولية العسكري على المدني، وأن اختيار الرؤساء كان من صلاحيات المؤسسة العسكرية، على الرغم من محاولات صبغه بالصبغة الشعبية، من خلال تنظيم انتخاباتٍ نتائجُها كانت معروفة سلفاً، كما حدث عام 1999 مع الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة. ثم لماذا نستشهد بالتجربة التاريخية، والحاضر ماثلٌ أمام أعيننا، ويؤكد حقيقة أولوية العسكري على السياسي في الجزائر؟ فها نحن نشاهد، منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر، تحول قيادة الأركان إلى مركز الحكم والسلطة، على الرغم من إصرار هذه القيادة، بمفارقة مكشوفة، على المقاربة الدستورية القانونية، مع أن كل متابع من قريب أو بعيد للشأن الجزائري يرى، وأكاد أقول، يلمس الشلل الكلي للحكومة (المدنية)، والانمحاء شبه الكامل لرئيس الدولة (المدني)، وعجزه عن القيام بأي فعل دالّ، بما في ذلك ما يخوله له الدستور، وأن النقاش والحوار غير المباشر وغير المعلن يدور بين الجماهير ونخبها من جهة والمؤسسة العسكرية وقيادتها من جهة أخرى. أو كما عبّر عنها مواطنون جزائريون كثيرون بقولهم: نحن نتظاهر في الشوارع يوم الجمعة، وهم يحدثوننا من ثكناتهم يوم الثلاثاء.
وعليه، لا طائل من الغرق في التأويلات القانونية، والارتهان في بعض موادّ الدستور الذي كان ولا يزال يُستعمل فقط لمصلحة النظم المتعاقبة على الجزائر، أو بالأحرى لمصلحة الحكام الذين تعاقبوا على حكم الجزائر، بدليل أن للجزائر المستقلة دساتير بعدد الرؤساء الذين حكمونا. بل أكثر من ذلك، إذا اعتمدنا الصيغ التعديلية الثلاث التي أجراها الرئيس المستقيل، ناهيك عن أن المؤسسة العسكرية نفسها لم تتردّد في القيام بالانقلابات العسكرية، أجلاها وأوضحها انقلاب 19 يونيو/ حزيران 1965، وتشويه أهم موادّه المتمثلة في السيادة الشعبية، والتعبير الحرّ، وخصوصاً الانتخاب الحر لممثليه، وفي مقدمتها انتخاب رئيس الجمهورية. إذْ لا أحد من الجزائريين يمكنه أن يعتبر الانتخابات الرئاسية في عام 2014 حرّة ونزيهة، جاءت برئيسٍ لم يكلّم شعبه بكلمة واحدة.
ولذا، يبدو جلياً أن فرض المقاربة القانونية مضيعة للوقت، أو ربح للوقت، تقوم به القوى
 المضادة لثورة الحرية، ثم تؤكد كل المؤشرات أن هذه المقاربة أدت إلى الانسداد، بل إلى الأزمة غير المعلنة بين المؤسسة العسكرية وجماهير الشعب الجزائري التي تريد التخلص من النظام القائم، بما هو استبدادي وفاسد، وهو ما يحتم الانتقال إلى الحل السياسي، لأن الأزمة التي تعرفها الجزائر سياسية بالدرجة الأولى، وليست دستورية قانونية، وأنها ناتجة من عوامل كثيرة، أظهرها وأهمها غياب الثقة بين الحكام والمحكومين.
لم تعد هذه المقاربة السياسية خياراً، وإنما أصبحت ضرورة تاريخية، ويجنب الإقدام عليها الجزائر منزلقات خطيرة، ويحتم علينا أن نترك جانباً فرضياً "المؤامرة"، و"الخيانة"، وألا نلوّح بحجة "الاستقرار" و"الأمن"، و"تضييع الوقت"، لأسبابٍ كثيرة، أهمها أن الشعب الجزائري، في كليته ووحدته، هو الذي يطالب بهذا التغيير المشروع، ولأن هذا الشعب قد اختار بشكل واع ومؤكد طريق السلام والأمن والاستقرار. ولأن هذا الشعب بكل مكوناته؛ الشباب والشيوخ، النساء والرجال، الأفراد والعائلات، وبكل مناطقه؛ الجنوبية والشمالية، الغربية والشرقية والوسطى، وبمختلف تياراته السياسية والثقافية، هو الذي خرج ولا يزال يخرج إلى الشارع، للتظاهر ضد النظام القائم، مطالباً بكل سلمية وبعيداً عن كل مظاهر العنف المادي والرمزي، وبأسلوب حضاري نادر، بضرورة ذهاب النظام القائم، وإقامة "جمهورية ثانية"، عمادها الحكم المدني، بما هو حكم الشعب لنفسه بنفسه، حكم يسمح للشعب باختيار ممثليه بكل حرية واستقلالية، ويرفع عنه مختلف أشكال الوصاية، ويخضع جميع مؤسسات الدولة لرقابته، بما في ذلك المؤسسة العسكرية. وهذا يعني أن الخطوة الأولى لإقامة هذه "الجمهورية الثانية" تتمثل في تحقيق ما سبق لميثاق مؤتمر الصومام في 20/ 8/ 1956 أن أقرّه، وهو ضرورة إعطاء الأولية للداخل على الخارج، وإعطاء الأولوية للمدني على العسكري، وبذلك تكون "ثورة الفرح والسلام" قد حققت أهدافها وأهداف ثورة التحرير المجيدة على حد سواء.
6219AD04-CFC6-407B-81FA-C5B2C6305F81
6219AD04-CFC6-407B-81FA-C5B2C6305F81
الزواوي بغوره
الزواوي بغوره