في تقييم "الربيع العربي"

18 يناير 2019
+ الخط -
بمناسبة الذكرى الثامنة لاندلاع ثورات الربيع العربي ضد الفساد والاستبداد، علينا أن نتذكّر أن ظاهرة الاستبداد السياسي التي سادت الدول العربية، منذ استقلالها عن الاستعمار الأوروبي في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، نبعت، بحسب تفسير المفكر برهان غليون، من الوظيفة التحديثية التي أناطتها الدولة العربية المعاصرة بنفسها، تجاه مجتمعها، والتي جعلتها قيّمةً على المجتمع بدل أن يكون المجتمع هو مرجعية وجودها. وهكذا أتيح لكل من يتولى سلطة الدولة أن يستبدّ بالناس والمجتمع، بحجة سعيه إلى تحديثهم. ولكن حين لا تؤدي الوظيفة التحديثية على وجهها السليم، وحين تنحرف الدولة بأهدافها عن أهداف مجتمعها وتطلعاته وآماله، فإن ما يبقى هو سلطة الاستبداد وحدها.
هكذا فإن العلاقة بين الناس وسلطة الدولة هي التي تحدّد مدى "مواطنية" هؤلاء الناس، أي انتماءهم لدولتهم، باعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحدهم، ويوفر لهم الحرية والأمان والاعتراف، ويرتبطون به بثنائية تقديم الواجبات والحصول على الحقوق، على قاعدة المساواة والتكافؤ الشاملين بين بعضهم بعضا، والخضوع لسلطة القانون، لكن الناس في الدول العربية ظلوا، منذ الاستقلال، أقرب إلى الرعايا منهم إلى المواطنين، فلا يُسمح لهم بالمشاركة في صنع القرار، وتوجيهه إلى ما يعتقدون أنه يحقق مصالحهم، إلا شكلياً، فضلاً عن عدم قدرتهم على اختيار ممثليهم في السلطة السياسية، لتكون هذه الأخيرة ممثلةً شرعيةً لإرادتهم.
بهذا، ظلت معضلة غياب المواطنة في العالم العربي واقعة في اتجاهين: يتعلق الأول بممارسات سلطة الدولة، فيما يتعلق الثاني بتواطؤ الناس مع تلك الممارسات عبر سكوتهم عنها، وسعيهم إلى الإفادة منها، على حساب شركائهم في الوطن، بمعنى أن غياب المواطنة في العالم العربي ظل ينبع من سببين:
الأول: وجود الاستبداد السياسي، لأنه يُحدث حالةً من الفساد الشامل في الدولة، فالإدارات تستغل السلطة لتحقيق مصالحها الخاصة، لا مصالح الناس على قاعدة من المساواة والتكافؤ. ويستمرئ الناس الفساد، لأنهم يخضعون له، ويوظفون العلاقات الشخصية والعصبية، للإفادة منه، كي يصلوا إلى غاياتهم عبر التجاوز على القانون. وهذا فساد شامل، لأن الجميع مقصّرون في أداء واجباتهم، بينما يسعون إلى تحصيل حقوقهم، فضلاً عن التجاوز عليها، وأخذ حقوق غيرهم.
الثاني: عدم تعامل الناس مع الدولة إلا من خلال وظيفتها التحديثية، وبالتالي الإدارية والتنفيذية، بدل اعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحدّهم، ويعبّر عن هويتهم. عوضاً عن ذلك، يلجأون إلى العائلة والعشيرة والطائفة، للتعبير عن هويتهم، والبحث عمّا يمثلهم ويوحّدهم، وعندها ينظرون إلى الدولة باعتبارها أداةً لتحقيق مصالح بُناهم الاجتماعية البدائية (القبلية والطائفية)، ما يجعل تلك البنى تتنافس فيما بينها على استغلال الدولة و"حلبها".
وقعت ثورات "الربيع العربي"، في جوهرها، ضد الفساد والاستبداد الذي أورث الناس فقراً ومهانةً، لكن أياً من تلك الثورات لم تنجح حتى اليوم نجاحاً واضحاً في تقويض ما ثارت ضده. والأمر بالطبع لم يكن مرتهناً للثورات المضادة التي عرفتها بلدان الربيع العربي وحسب، بل قبل ذلك لغياب البنى المدنية الحقيقية عن المجتمعات العربية، والتي كانت ستضمن حماية الثورات والدفاع عن أفكارها وآمالها ورؤاها. ولهذا على سبيل المثال نجد تفاوتاً في مدى نجاح كل واحدةٍ من تلك الثورات، استناداً إلى درجة "الاستعداد المدني" لشعوبها، فنجد أن الثورة التونسية أكثر نجاحاً من الأخريات، لارتفاع درجة الاستعداد المدني في ثقافة المجتمع التونسي قبل الثورة، فيما نجد الحال تعيساً في مجتمعاتٍ شديدة القبلية، مثل ليبيا واليمن.
هنا المعيار الحقيقي لتقييم مدى نجاح ثورات الربيع العربي أو فشلها، فإذا أنتجت أنظمة حكم تعمل لتحفيز الاستعداد المدني لشعوبها، متيحةً لأفرادها مغادرة العلاقات العصبية باتجاه الانصهار في المشاركة العامة، على قاعدة التكافؤ في الحقوق والواجبات والفرص، والمساواة أمام القانون، كانت أنظمةً وطنيةً حقاً. أما إذا أنتجت أنظمة تواصل أداء أدوار إكراهية على شعوبها، بدعوى حمايتها وتحديثها، فإنها إنما كانت ثوراتٍ فاشلة، أو جولاتٍ فاشلة من ثوراتٍ لم تنته، على أقل تقدير.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.