مرّت على مدينة القدس المحتلّة فترات من "الصّمت"، في السّنوات القليلة الماضية. فترات شعر فيها المقدسيون، بأنهم خارج حسابات أي طرف عربيّ، وأنهم محاصرون عاجزون، لا يملكون إلا التألّم والصّبر بصمت. لم يعد هذا الانطباع سائداً اليوم، فمشاعر القدرة على الفعل والردع والفخر، تملأ صدور المقدسيين بشهدائهم الثلاثة، الذين ارتقوا بعد تنفيذ عمليات دهس وإطلاق نار ضدّ مستوطنين وأفراد من شرطة الاحتلال.
نفّذ الشّهداء الثلاثة عملياتهم البطوليّة أيام الأربعاء، من كلّ أسبوع من الأسابيع الثلاثة المنصرمة، حتى بات المقدسيون يسألون بحماسة "من سيكون الشّهيد يوم الأربعاء المقبل؟". وبتنا نلاحظ أن أغلب المتحدثين أمام كاميرات وسائل الاعلام تخلّوا عن الشعارات التقليدية بمناشدة العرب والمسلمين والتباكي، وتحوّلت كلماتهم إلى خطاب من نوع "نحن لها، أرواحنا ودماؤنا فداء للقدس والأقصى". ولا يحتاج الشّبان المقدسيون إلى تجنيد حزبيّ أو إعلانات تُخرجهم في التظاهرات والمواجهات مع الاحتلال، فالأمر بات بالنسبة إليهم عملٌ عفويّ شبه يوميّ.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ فقد أمر رئيس بلدية الاحتلال في القدس، نير بركات، بالانتقام من المقدسيين، خصوصاً أولئك الذين اعتُقلوا أو اعتُقل أبناؤهم، عن طريق مداهمة المحلات التجارية وفحص تراخيصها، وتنفيذ أوامر هدم البيوت، وتكثيف مخالفات السّير، وتغريم كل من يخالف "قوانين البلدية".
بموازاة ذلك، استقدمت شرطة الاحتلال، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي ألف عنصر أمني جديد، لمحاولة فرض الهدوء في المدينة، كما أعلنت يوم الأربعاء عن استقدام 300 آخرين. ومن الواضح أن نظرية "الردع" الأمنية الإسرائيلية، قد تسقط أمام أبسط الأفكار والأدوات. فهل منعت "بالونات" المراقبة التي أُطلقت في سماء المدينة الشهر الماضي، من اندلاع مواجهات أو من احتشاد المرابطين على بوابات الأقصى؟ وهل بمقدور الأعداد المكثفة من قوات الاحتلال في المدينة، أن تقرأ ما يدور في عقل شاب فلسطيني يملك رخصة قيادة أو أن تمنعه من أن يكون البطل التّالي؟
ومن سخرية الأقدار، أن كاميرات المراقبة المنتشرة بالمئات في أحياء القدس، التي نُصبت بهدف ردع الفلسطيني وتخويفه، أصبحت اليوم مصدراً للاطلاع عن قرب على بطولاته، ومادة "مرعبة" يشاركها الإسرائيليون على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تحت شعار "مشاهد صعبة". ويبدو أن إسرائيل نفسها ليست بغافلة عن هذه الحقيقة، حقيقة أن الأمن الذي تسعى له لن يعود بمزيد من القوة من جانبها، فنظرية "الردع" قد عملت بشكل عكسي هذه المرة.
أما على المستوى الرسمي، فقد أمر رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، نواب الكنيست بالعمل على "تهدئة النفوس" فيما يتعلق بالمسجد الأقصى و"التصرف بمسؤولية وضبط النفس". وقد وُجّهت بعض الاتهامات الإسرائيلية الرسمية والاعلامية لأعضاء الكنيست، بصفتهم المسؤولين عن اشعال الأوضاع بسبب اقتحاماتهم المتكررة للمسجد الأقصى.
أما على المستوى الشعبيّ، على سبيل المثال، فقد ألغت معظم المدارس الإسرائيلية في مختلف المدن المحتلة رحلات طلابها إلى القدس، وقلّصت برامج الرحلات المتبقية، وشطبت منه زيارة حائط البراق مثلاً، ليقتصر على مناطق تقع في غرب القدس، بعيداً عن الأحياء الفلسطينية.
في السّياق، تطرح بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والشخصيات الإسرائيلية مقترحات لاستمالة المقدسيين وممثلين عنهم، بتخصيص المزيد من الميزانيات لتحسين ظروفهم المعيشية. ويطرح بعضهم "بناء المزيد من الصفوف الدراسية لسّد النقص الحادّ في مدارس القدس".
لم تكن هذه المرة الأولى التي تُطرح مثل هذه الحلول، ولكن الزمن شاهدٌ على فشلها في محاولة تشويه الهوية الفلسطينية في القدس. ولا يسعنا إلا أن نذكر أن شبان شعفاط استخدموا في يوليو/تموز الماضي لافتة البلدية، التي أعلنت عن بناء صفوف جديدة بالقرب من منزل الفتى الشهيد محمد أبو خضير، كساتر معدني يقيهم قنابل قوات الاحتلال.
ولعلّ بركات نفسه، لا ينسى أن طالبات إحدى هذه المدارس التي بنتها بلديته هذا العام، رفضن في فبراير/شباط الماضي استقباله في المدرسة، وأداء عرض للدبكة الفلسطينية بحضور الإعلام الإسرائيلي. ولا شكّ في أن هذا الوعي الأساسي على بساطته، هو عامل لازم في أي تحرّك فعلي مستقبلي على الأرض.
إلا أن الواقع ومسيرة التاريخ الفلسطيني تستلزم طرح هكذا سؤال، حرصاً على دماء من ارتقوا، وحتى تكون فعلاً زيتاً مشعلاً، فلا أحد ينسى أن الانتفاضة الأولى مثلاً وظفت لصالح مشروع "اتفاق أوسلو"، الذي تنازل عن أكثر من 70 في المائة من أرض فلسطين.
من المهم أن ندرك أن هذه البطولات قد لا توظف فوراً بما فيه مصلحة الشعب الفلسطيني وخدمة ثوابته، بل وربما سيُساء استغلالها، لعوامل عربيّة وفلسطينية محلية عدة، إلا أنها وبكل تأكيد جولة جديدة من جولات الصمود يقاتل فيها المقدسيون، كالشهيد إبراهيم العكاري، حتى آخر نفس.
وهي جولة نوعيّة لم يعبأ فيها المقدسيون بكونهم الوحيدين المرابطين على سور مدينتهم، مساهمين في محاولات إنقاذ قضيتهم من "الموت السريري" الذي تمر به عربياً وفلسطينياً. وإن كان البعض يتوقع أن مآل هذه الجولة الخفوت عاجلاً أم آجلاً، إلا أن ما في نفوس المقدسيين والفلسطينيين من فخر وتحدٍ بفعل هذا الجولة، كفيل باستيلاد جولات جديدة أشد وأقوى، لا تبقي الإسرائيلي مرتاح البال.