في الذكرى الأولى ... أوراق اعتماد معمدة بالدم
لعب النظام السوري، منذ بداية تشكله على يد الأسد الأب، دوراً وظيفياً مهماً في السياسة الدولية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، كان نتيجة طبيعية لموقع سورية الجغرافي الذي ساهم بتضخيم القوة التي يتمتع بها نظام مستقر، يحكم هذا البلد. لقد كانت سورية تقع، على الدوام، بين حدي عبء الجغرافيا وعبقرية المكان، ما أدى إلى وضع متأرجح في المكانة السياسية للنظام الحاكم في سورية، أياً كانت طبيعته. وانطلاقاً من فهم عميق لهذا الموقع الجيوسياسي، مارس النظام السوري صلفاً غير معتاد منذ بداية الثورة السورية، وهو يدرك أن موقف القوى العالمية من عملية التغيير في سورية لن يكون على الشاكلة المصرية أو الليبية ولا اليمنية.
كانت ممارسات هذا النظام تشي بأنه مرتاح في استخدام فائض القوة لديه ضد طموحات الشعب، من دون خشية حقيقيةٍ من المحاسبة على ما يفعل، فبعد أربعة أشهر من الثورة، وسقوط أكثر من ألف شهيد، أبدت الولايات المتحدة الأميركية موقفاً اعتبر الأشد لهجة حتى ذلك التاريخ، إذ قالت هيلاري كلينتون، في مؤتمر صحفي مشترك مع المفوضة الأوروبية، كاثرين أشتون، في 12 يوليو/تموز 2011 "الرئيس الأسد ليس شخصاً لا يمكن الاستغناء عنه، ونحن ليس لدينا أي شيء على الإطلاق للاستثمار في بقائه في السلطة".
جاء هذا التصريح في عقب جمعة "إرحل" التي صادفت يوم 1 يوليو/تموز 2011، والتي أكدت أغلب وكالات الأنباء أن عدد المتظاهرين فيها كان زهاء أربعة ملايين متظاهر، في أكثر من مائة نقطة تظاهر على امتداد الجغرافيا السورية. كان جلياً، منذ هذا التاريخ، أن "الثورة السورية قد أصبحت قوة لا تقاوم، اصطدمت بشيء لا يمكن تحريكه"، على حد تعبير فؤاد عجمي.
يدرك المتفحص لكلام هيلاري كلينتون طبيعة الدور الوظيفي الذي كان يلعبه النظام السوري في السياسات الأميركية في المنطقة، في ظل علاقة شديدة التعقيد، تحكم الطرفين، ويبقى الثابت الأساسي فيها عدم تعريض أمن إسرائيل للخطر. هذا الدور الوظيفي هو نقطة الارتكاز التي استثمر فيها حافظ أسد، منذ منتصف السبعينيات، بتدخله في الحرب الأهلية اللبنانية. ولا يغيب عن بالنا أن دخول الجيش السوري إلى لبنان كان بمباركة أميركية، وبمعارضة من الاتحاد السوفييتي السابق، والذي يفترض أنه الحليف الاستراتيجي للنظام السوري وقتها. هذا الأساس التاريخي قد يلقي بعض الضوء على البعد الوظيفي للنظام السوري.
لقد أدرك بشار الأسد أن اهتمام المنظومة الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ينصب بالدرجة الأولى على أهمية ضبط السلاح الكيماوي، وليس على تحقيق أي عملية ديمقراطية في سورية، تؤدي إلى رحيله. لم يكن هذا الموقف خافياً على أحد، وكان أكثر من مسؤول أميركي يردِّد أن الولايات المتحدة لن تسمح بتسرب الأسلحة الكيماوية السورية إلى حزب الله، أو إلى الحركات الجهادية. كان واضحاً أن الولايات المتحدة تعيش أزمة أخلاقية، بسبب موقفها المتردِّد من تقديم دعم جدي للثورة السورية، لكن ضغوط أطراف دولية أخرى، ولا سيما بعض الدول العربية وتركيا وفرنسا والتي كان موقفها واضحاً بعدم إمكانية بقاء بشار الأسد في السلطة تحت أي مسمى، قد حرك الولايات المتحدة الأميركية، للبحث عن حلول أخرى للمعضلة السورية.
تجلت هذه الحلول في بيان جنيف في 30 يونيو/حزيران 2012، وهو حل غير قابل للتطبيق، بسبب غموضه، وعدم وجود فرصة حقيقية لتغيير جدي في موازين القوى، يسمح بفرضه من جانب قوى الثورة السورية. أعقب صدور بيان جنيف تقدم جيد للمعارضة المسلّحة على الأرض، سمح بسيطرتهم على مساحة كبيرة من الجغرافية السورية، تقدر بأكثر من نصف مساحة سورية، واستمر هذا التقدم يضطرد باتساع خلال عام 2012 وبداية عام 2013. وكانت كل الدلائل تشير، على الرغم من تعقد المشهد السوري ونمو الحركات المتطرفة، إلى إمكانية زحزحة مكان الأسد، وإلزامه باتباع حل سياسي ما.
في هذه اللحظة الحرجة بالنسبة له، بدأ النظام السوري يقيس مستويات الصراع، وإمكانية الاستغناء عنه أميركياً بالدرجة الأولى. كان بشار الأسد قادراً على إعادة تجديد أوراق اعتماده لدى الإدارة الأميركية، ليس من باب مكافحة الإرهاب الذي لم يعد يقنع أحداً، بل من باب استثمار الحساسية الإسرائيلية المتعلقة بالسلاح الكيماوي، فكانت عملية استخدام السلاح الكيماوي في غوطة دمشق في يوم 21 أغسطس/آب 2013 هي العرض الذي قدمه الأسد، وتلقفه الأميركيون بشغف، فقد كانوا ينتظرون هذه اللحظة التي كان الجميع يدرك أنها ستأتي.
في مؤتمر هرتسليا للأمن، المنعقد في 14 مارس/آذار 2013، صرح رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الجنرال أفيف كوخافي: "الأسد ما زال يسيطر على السلاح الكيماوي في البلاد، لكنه يدرس تصعيد الحرب مع الثوار، ويقوم بتحضيرات متقدمة لاستخدام السلاح الكيماوي ضد الثوار". وأردف "الأسد لم يعط الإشارة بعد لاستخدامه". تناقلت هذا التصريح كل وكالات الأنباء العربية والأجنبية. كان الجميع يعلم أن الأسد سيستخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه، لكن الجميع تركه يستخدم هذا السلاح، ليفاوضه على تسليمه، والأسد فهم هذه المعادلة. وافق مباشرة على تسليم هذا السلاح، وبهذا تمت صفقة مع العالم أجمع، يضمن بموجبها أنه لا يمكن إطاحته في فترة التسليم التي تمتد تسعة أشهر، أي حتى منتصف عام 2014، كما جاء في قرار المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في 27 سبتمبر/ أيلول 2013، والذي تبناه مجلس الأمن في القرار رقم 2118 الصادر عن مجلس الأمن في التاريخ نفسه. إذن، ارتكب الأسد جريمته، وضمن بقاءه في السلطة تسعة أشهر، وبقرار دولي، باعتباره أصبح شريكاً في عملية تسليم السلاح الكيماوي. في هذه الفترة، سيعمل نظامه على تغيير جوهري في موازين القوى، يضمن له تجديداً إضافياً، وهو ما استطاع تحقيقه بإيجاد البيئة اللازمة لازدهار تنظيم الدولة الاسلامية الذي سيكون محلاً لتفاوض مقبل بين الأسد والقوى العالمية.
كانت جريمة استخدام السلاح الكيماوي مزدوجة، فهي، فضلاً عن وحشيتها والهمجية الكامنة وراء العقل المخطط لها، كانت جريمة من أجل بقاء فرد في السلطة، بمباركة من المنظومة الدولية. لم تكن أداة لكسر إرادة الثورة، أو لتحقيق الانتصار على العدو، وإجباره على الاستسلام، كما يحدث عادة في حالات استخدام السلاح الكيماوي، أو أسلحة الدمار الشامل، بل كانت مجرد استثمار بدماء السوريين ساهم العالم كله بأخذ الحصة المناسبة منه. ستبقى هذه الجريمة جرحاً غائراً في الوطنية السورية، وستبقى وصمة عار على جبين المنظومة الدولية. إنها السقوط الأخلاقي المريع لعالم يدّعي أنه متحضر.