23 اغسطس 2020
في الخوف
في أن الخوف هو المحرك للفعل البشري منذ الأزل، الخوف من المجهول، انعدام اليقين، اللجوء إلى الأسطورة للتغلب على الخوف من الطبيعة. الخوف صناعة المستبدين.
ذهب هوركهايمر وأدورنو إلى أن الإنسان، في محاولته التغلب أو التحرر من الطبيعة، رسا إلى العقل بعد الأسطورة، وهذا هو التنوير، أن العقل يحرّر الإنسان من الطبيعة وينزع السحر عن العالم ويحقق له التقدم. ولكن في تحرّر الإنسان من الطبيعة من خلال العقل فقد الإنسان إنسانيته الطبيعية، وصار همه العقلانية والعلم، بدلاً من حرية الإنسان. صارت الطبيعة شيئاً للبحث العلمي "المحايد"، وليست مكملاً للإنسان وبيئته الحاضنة.
لكن لماذا التحرّر من الطبيعة؟ أليس الإنسان كائناً طبيعياً؟ ناصب الإنسان الطبيعة العداء بسبب جهله بها وعدم قدرته على التحكم بها. لكن الدافع الأهم هو الخوف منها، وعدم القدرة على التنبؤ بحركتها. ليس هدف التحرّر من الطبيعة والتغلب عليها هو التقدم البشري، بل التغلب على الخوف في داخل الإنسان. الخوف من المجهول. هذا الخوف الذي دفع الإنسان إلى تقديس الشمس والقمر وعبادتهما، هو ذاته الذي دفعه إلى تقديس العقل، ليس العقل العاطفي الإنساني الطبيعي، بل الأداتي الذي يسخّر البشر والحجر لإعلاء شأنه (شأن العقل). هدف بلا قيمة.
هو الرعب إياه الذي يزلزل كينونة الإنسان عند هايدغر، ويزجّه إلى العدم. رعب من ماذا؟ رعب ناتج عن إدراك النهاية، العدم، الموت. ليس الرعب من الموت، بل يبدأ بإدراك حتمية الموت. حينها ينفصل الإنسان عن الآخرين، ويعيد الالتحام بنفسه. من العدم يعود إلى الوجود الأصيل.
الخوف من المجهول، انعدام اليقين، أشعل حروب هيمنة وسيطرة "عقلانية" و"علمية" على
الطبيعة، وعلى الإنسان كونه جزءاً من الطبيعة. ليس السجود للعقل والعلم تقدماً ولا تنوراً، هو رغبة في الهيمنة يحركها الخوف وانعدام اليقين.
الاستثمار بالخوف وباللايقين هو صناعة المستبدين. يبني المستبد ميزان رعب وخوف أولاً، ويضع نفسه "بيضة قبان" هذا الميزان. هو الضامن للاخوف. هو اليقين. يقرن نفسه بصاحب الجلالة. هو اليقين والعالِم. يدرك أن الإنسان قد لا يأبه بأن يتأذى جسدياً، وأن يخسر امتيازاته في سبيل حريته، لكنه يكره المجهول، يخاف منه. عقدة الطفولة هي المجهول. يصير الخيار بين الحرية واليقين. بين الحرية واللامجهول/ عدم الخوف. قد تنال حريتك، لكنك ستدخل المجهول. هل تفضل أن تكون حراً خائفاً أم مستعبداً مطمئناً؟ في القرن الماضي، ملايين البشر فضلوا الخيار الثاني. في ألمانيا وإيطاليا مثلاً.
عملياً، حاول الإنسان التخلص من استبداد الخوف، فوصل إلى استبداد العقل. لكن عندنا ما زال الخوف والاستبداد مثل رديفين.
في الغرب، صار الخوف صناعة سينما مربحة. عندنا، الخوف صناعة مربحة أيضاً، لكنها حقيقية.
عودة إلى هوركهايمر وأدورنو، وصفا التنوير بأنه مضاد للخوف، لكن نوره أيضا مخيف: يعتبر التنوير، وعلى مر الزمن، وبالمعنى العريض، تعبيراً عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف، وجعله سيداً. أما الأرض التي تنورت كلياً، فهي أرض تشع بكارثة منتصرة.
واليوم، يخوض العربي عموماً حرباً للتحرر من الخوف. لأن الحاضر صار مخيفاً، كابوساً مرعباً، والكابوس كلما طال يقترب من نهايته. صار العربي في الحالتين خائفا. حر خائف.. ومستعبد خائف.. من كثرة الخوف.. صار الخوف تافهاً. تفاهة الخوف.
إنها أرض تشع بنور كارثة منتصرة. أو كما قال محمود درويش في "طباق" إدوارد سعيد: قد يكون التقدم جسر الرجوع إلى البربرية.
ذهب هوركهايمر وأدورنو إلى أن الإنسان، في محاولته التغلب أو التحرر من الطبيعة، رسا إلى العقل بعد الأسطورة، وهذا هو التنوير، أن العقل يحرّر الإنسان من الطبيعة وينزع السحر عن العالم ويحقق له التقدم. ولكن في تحرّر الإنسان من الطبيعة من خلال العقل فقد الإنسان إنسانيته الطبيعية، وصار همه العقلانية والعلم، بدلاً من حرية الإنسان. صارت الطبيعة شيئاً للبحث العلمي "المحايد"، وليست مكملاً للإنسان وبيئته الحاضنة.
لكن لماذا التحرّر من الطبيعة؟ أليس الإنسان كائناً طبيعياً؟ ناصب الإنسان الطبيعة العداء بسبب جهله بها وعدم قدرته على التحكم بها. لكن الدافع الأهم هو الخوف منها، وعدم القدرة على التنبؤ بحركتها. ليس هدف التحرّر من الطبيعة والتغلب عليها هو التقدم البشري، بل التغلب على الخوف في داخل الإنسان. الخوف من المجهول. هذا الخوف الذي دفع الإنسان إلى تقديس الشمس والقمر وعبادتهما، هو ذاته الذي دفعه إلى تقديس العقل، ليس العقل العاطفي الإنساني الطبيعي، بل الأداتي الذي يسخّر البشر والحجر لإعلاء شأنه (شأن العقل). هدف بلا قيمة.
هو الرعب إياه الذي يزلزل كينونة الإنسان عند هايدغر، ويزجّه إلى العدم. رعب من ماذا؟ رعب ناتج عن إدراك النهاية، العدم، الموت. ليس الرعب من الموت، بل يبدأ بإدراك حتمية الموت. حينها ينفصل الإنسان عن الآخرين، ويعيد الالتحام بنفسه. من العدم يعود إلى الوجود الأصيل.
الخوف من المجهول، انعدام اليقين، أشعل حروب هيمنة وسيطرة "عقلانية" و"علمية" على
الاستثمار بالخوف وباللايقين هو صناعة المستبدين. يبني المستبد ميزان رعب وخوف أولاً، ويضع نفسه "بيضة قبان" هذا الميزان. هو الضامن للاخوف. هو اليقين. يقرن نفسه بصاحب الجلالة. هو اليقين والعالِم. يدرك أن الإنسان قد لا يأبه بأن يتأذى جسدياً، وأن يخسر امتيازاته في سبيل حريته، لكنه يكره المجهول، يخاف منه. عقدة الطفولة هي المجهول. يصير الخيار بين الحرية واليقين. بين الحرية واللامجهول/ عدم الخوف. قد تنال حريتك، لكنك ستدخل المجهول. هل تفضل أن تكون حراً خائفاً أم مستعبداً مطمئناً؟ في القرن الماضي، ملايين البشر فضلوا الخيار الثاني. في ألمانيا وإيطاليا مثلاً.
عملياً، حاول الإنسان التخلص من استبداد الخوف، فوصل إلى استبداد العقل. لكن عندنا ما زال الخوف والاستبداد مثل رديفين.
في الغرب، صار الخوف صناعة سينما مربحة. عندنا، الخوف صناعة مربحة أيضاً، لكنها حقيقية.
عودة إلى هوركهايمر وأدورنو، وصفا التنوير بأنه مضاد للخوف، لكن نوره أيضا مخيف: يعتبر التنوير، وعلى مر الزمن، وبالمعنى العريض، تعبيراً عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف، وجعله سيداً. أما الأرض التي تنورت كلياً، فهي أرض تشع بكارثة منتصرة.
واليوم، يخوض العربي عموماً حرباً للتحرر من الخوف. لأن الحاضر صار مخيفاً، كابوساً مرعباً، والكابوس كلما طال يقترب من نهايته. صار العربي في الحالتين خائفا. حر خائف.. ومستعبد خائف.. من كثرة الخوف.. صار الخوف تافهاً. تفاهة الخوف.
إنها أرض تشع بنور كارثة منتصرة. أو كما قال محمود درويش في "طباق" إدوارد سعيد: قد يكون التقدم جسر الرجوع إلى البربرية.