في استدعاء "23 يوليو" إلى الحاضر المصري

24 يوليو 2020

غلاف عدد مجلة المصور في 23/7/2020

+ الخط -

لا تمرّ ذكرى 23 يوليو 1952 في مصر من دون جدل بشأن نظام يوليو والناصرية، مناقشة الإنجازات والإخفاقات، سجالات سياسية، واحتفاء رسمي بالذكرى بوصفها مرحلة تاريخية مهمة أسّست لوضع جديد، لكن اللافت أن يظل الحدث رهين التوظيف السياسي حسب الهوى، وبشكل متناقض بين كتلتي المؤيدين والمعارضين للنظام، وأن يستخدم كل منهما، وفي اجتزاء للتاريخ وأحيانا افتراء عليه، ما يوافق تصوراتهما، وكأن مصر قبل ما يقارب سبعين عاما ما زالت كما هي بالسمات نفسها، لم تتغير فيها أحوال السياسة والطبقات الاجتماعية، ولا شخوص الحكم والمعارضة.

يغلب على نقاش الأحداث التاريخية عربيا تجسيد النظم في الأشخاص، كما جرى، ولأسبابٍ موضوعيةٍ وذاتية، في استدعاء جمال عبد الناصر بعد حراك "30 يونيو" (صيف 2013)، وإزاحة الإخوان المسلمين وصعود عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، وهي اللحظة التي تصاعدت فيها ظاهرة التوظيف السياسي لرموز ومحطات تاريخية، أهمها فترة حكم نظام يوليو. ولم يقتصر الأمر على السلطة، فهناك توظيف مقابل من أصوات ليبرالية وإسلامية ويسارية. والاتجاهات الثلاثة، على الرغم من الاختلاف بينها، تستدعي الماضي لتحليل الواقع، بل ورسم مستقبلٍ حسب المخيلة القائمة على قياس شكلي، وبعضها يشبّه الواقع بالماضي إلى حد التماثل.

توظيف نظام يوليو مستمر في مصر بين فئات من معارضي النظام الراهن ومؤيديه

على الرغم من اختلاف الهدف من توظيف التاريخ بين تأييد للنظام أو معارضته، تجد الطرفين متشبثين بالمقارنة بين النظام الحالي والحقبة الناصرية. صحيحٌ أن المنهج التاريخي المقارن يفيد في تحليل الواقع، والاستفادة من الخبرات، لكن ذلك مرهون بموضوعية التحليل ونزاهته، فضلا عن صدق المعطيات، للخروج بنتائج واستخلاصات تساهم في تكوين رؤيةٍ عن الواقع وسبل تغييره، أو كما يحب بعضهم أن يقول اتخاذ العبر والاستفادة من دروس التاريخ.

تأخذ أبواق دعاية السلطة من "نظام يوليو" ما تريد، وهي تمارس دعايتها وتحشد جمهورها وتبرّر سياساتها، وقبل أن تتشكل هذه السياسات مثلا، قصد التمهيد لها، ومن ذلك أن ترفع صورة وزير الدفاع حينها، عبد الفتاح السيسي، بجوار صورة عبد الناصر في الميادين، لإنتاج رمزية سياسية وتبشير بالمستقبل، وإشاعة صورة الزعيم المخلص، وريث القائد البطل. لكن الغريب في أمر تياراتٍ سياسيةٍ تدّعى الرغبة في التغيير، والسعي إلى تأسيس وعي حقيقي، أن تستخدم الأسلوب نفسه، وكأنها تؤكد ما أرادته السلطة وتساعدها، حتى إن حاولت المقاربة بين السلطوية في النظامين، وكما تمارس قوى مؤيدة للسلطة الدعاية، خصوصا التي تصوّرت أن النظام ناصري الهوي، وسيحقق الاستقلال الوطني، ويستعيد وجود مصر أفريقيا، يواجه أميركا وإسرائيل وقوى الرجعية العربية، وينشئ المصانع والمدارس والمستشفيات، ويفرض مظلة التأمين الاجتماعي. وإجمالا يحفظ ويعيد ما سلب من حقوق اقتصادية واجتماعية مستحقة للمصريين أيام حسني مبارك وأنور السادات، ويواجه الفساد واستغلال رأس المال الكبير. ولكن هذه القوى مصابة بالعوار، وهي تبحث عن إضاءة تذكّرهم بالماضي، أو توصل الحنين لما مضى حتى بالتمنّي الكاذب، وهي تغرق في أمانيها، تتجاهل ما يجري من سياساتٍ اقتصاديةٍ وعلاقاتٍ خارجيةٍ متناقضة مع الناصرية.

تأخذ أبواق دعاية السلطة من "نظام يوليو" ما تريد، تمارس دعايتها وتحشد جمهورها وتبرّر سياساتها

ليس مؤيدو السلطة وحدهم من يجترّون التاريخ، ويوظفونه، لهوى غالبٍ عند بعضهم، فهناك في منظومة التوظيف قوى تختلف في توجهها الفكري والسياسي، لكنها متفقة على أن نظام السيسي نسخة من نظام عبد الناصر. وتختار كل منها جانبا أو موقفا لتثبت صحة تصوّراتها، يدعو ذلك إلى التأمل بشأن هشاشة الفكر السياسي لدى قوى سياسيةٍ أغلبها قديمة الجذور، وهي تمارس، عبر رؤية جزئية ومقولات عمومية، عملية دعاية تختزل التاريخ، وتزيف الوعي. وبهذا الشكل، تدخل في إطار مكايدة سياسية، يستفيد منها من يديرها، وتبتعد عن صياغة رؤى للتغيير. كما تعزّز هذا المنهج أزمة قوى المعارضة، التي تقدّم رؤى تبسيطية مخلّة تشبه المقولات الرائجة والاختزالية على "توتير" و"فيسبوك". ولا يصلح هذا خطابا سياسيا يحلل الأزمة. كما يتصف التوظيف السياسي لنظام يوليو بعقليةٍ تتجاهل التاريخ الاجتماعي والسياسي المصري، ويقدّم خلطات جاهزة ومكرّرة، من دون جهد أو ملل.

ويقع المعارضون، حين يشبّهون النظام الحالي بالفترة الناصرية، بخطأ في تقدير (وتحليل) الواقع وشبكات العلاقات والمصالح وعلاقات القوة. وهم يصلون، في ذلك، إلى نتائج غير صادقة، ودعاية تماثل دعاية مؤيدي النظام الذين يشبّهونه بالحقبة الناصرية أيضا، والتي تعمل، عبر استدعاء التاريخ بشكل انتقائي، على إنتاج مؤيدين جدد، أو المحافظة على كتلة المؤيدين للسلطة، والسلطة، بطبيعة الحال، غير مهتمة بتأسيس وعي حقيقي، إن لم يكن الغرض من الاستدعاء غالبا تزييف الوعي، بينما من المفترض أن القوى التي تدعو إلى التغيير أن تؤسس لوعي حقيقي، ونقد لخطابها، وتسأل نفسها عن علاقة هذا الخطاب باستمرار الأزمة، خصوصا بعد فشل محطة التغيير في العام 2011، والتي اتضح ما فيها من أوهام وحسابات خاطئة وأولويات معكوسة عجّلت بفشلها.

قوى تختلف في توجهها الفكري والسياسي لكنها متفقة على أن نظام السيسي نسخة من نظام عبد الناصر

كذلك لا يمكن أن يكون خطاب قوى سياسية مرتكزا على أطروحات شكلية خالية المضمون، ومنزوعة عن مصالح الناس اقتصاديا واجتماعيا، في وقتٍ يروج الإعلام الرسمي لانحياز السلطة للطبقات الشعبية باعتبار النظام وريثا للناصرية، بوصف الحاضر صورة للماضي. ويفتقد هذا المنطق الشكلي الذي يستدعي التاريخ إلى بصيرة تقدم رؤية تحترم العقل وتعرّف الفوارق وتقدم مشروعا للتغيير، يربط بين ما هو ديمقراطي واجتماعي، ويربط الحقوق بالحريات، ولا ينظر بعين واحدة إلى التاريخ.

توظيف نظام يوليو مستمر في مصر بين فئات من معارضي النظام الراهن ومؤيديه، كل كتلة تختار ما يخدم مصالحها وتصوّراتها، غير أن الكتلتين تتصوران أن التاريخ توقف عند نظام يوليو 1952 حتى يحل مكانه نظام يونيو 2013، أو كما يحبون التكرار "التاريخ يعيد نفسه"، فيعاودون هم أطروحات عودة دولة الضباط، ويفسّرها كل فريق كما يحب. ليس النظام الحالي صورة مما مضى، ولن يكون، لأسباب عديدة. هذه حقيقة يتجاهلها المعارضون للنظام، وكذلك المؤيدون. وقد توهم بعضهم أن النظام صورة من نظام يوليو، وانحيازه للحقوق الاجتماعية وتوجهه العروبي. وإذا كانت هناك تشابهات فيما يخص الميل السلطوي، فإن مساحات التناقض والاختلاف عميقة جدا، وهي مرتبطة بملف الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الخارجية، وحتى مساحات العمل الشعبي، فضلا عن طبيعة الشخوص وتأثيرهم، سواء في مقاعد الحكم أو المعارضة. لذا إعادة الطرح انطلاقا من الواقع أصدق من استدعاء أختام التاريخ ودمغها على أفكار مسبقة، ذلك هو السبيل إلى إعادة إنتاج خطاب للتغيير، يتجوز إخفاقاتٍ مضت.

استمع إلى المقالة:

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".