07 اغسطس 2024
في أسباب قوة داعش
يرى بعضهم أن داعش مجرد لعبة دولية، مجرد ملهاة يمكن أن يقضي اللاعبون الكبار عليها فوراً متى قرّروا ذلك، فهو كيان لم يكن أحد يسمع به قبل عامين، ولما أعلن "الخلافة الإسلامية" في يونيو/ حزيران 2014، بعد اجتياحه مدناً في سورية والعراق، اعتبر بعضهم الإعلان مزحة، وما زال هؤلاء يتساءلون: كيف توسعت "عصابة" مسلحة بهذه السرعة؟ كيف تتمكن من السيطرة كل هذه الفترة على مدن كبرى، كالموصل في العراق والرقة في سورية؟ ولماذا لم يقض العالم عليها حتى الآن؟
بعيداً عن التهويل أو التهوين، يكشف البحث في أسباب قوة داعش عن أخطاء ارتكبت من قبل كيانات دولية وإقليمية ووطنية عديدة، لكنه يكشف، أيضاً، عن كيان جديد يستفيد بنجاح من مشكلات مركبة، يصعب حلها في سنوات قليلة، ولعل هذا سر قوة داعش، والذي نلخصه في خمسة أسباب رئيسية:
أولاً: ليس داعش وليد مشكلات اليوم، لم يولد في سورية أو العراق أو بعد الربيع العربي، إنه ابن شرعي لجماعة القاعدة ولجماعات ما يسمّى التيار الجهادي، ويعود في جذوره إلى ميراث القاعدة في التسعينيات وقبلها، ومن تدربوا في جبال أفغانستان وباكستان، كما أنه شبّ ونما في بلاد العرب نفسها، وتحديداً في العراق وسورية بعد الغزو الأميركي في 2003. وقد طوّر أبو مصعب الزرقاوي، الأب المؤسس للدولة الإسلامية في العراق، جيناتها الخاصة بعد الغزو الأميركي، جماعة سنية تخوض حرباً طائفية طاحنة ضد شيعة العراق وإيران، وحرباً ضد المحتل الأجنبي والنظم العربية، وتستخدم أكثر الأساليب عنفاً لبث الرعب في نفوس مخالفيها، وتتداخل مع القبائل والعشائر العراقية والسورية، وتتنقل بين سورية والعراق، وتستفيد من حركة المقاتلين الأجانب (تقدر أعدادهم حاليا في داعش بأكثر من 20 ألفاً).
قتل الزرقاوي، وتراجعت أنشطة جماعته، بعد صعود صحوات العراق، لكنها لم تختف، وظلت في مدن العراق، وربما في بعض الحواضن الشعبية في سورية، تنتظر فرصة العودة، والتي أتتها بقوة مع انسحاب القوات الأميركية من العراق، وبداية تفكك الدولتين، العراقية والسورية، في عام 2011.
ثانياً: داعش جزء من ظاهرة أكبر، تمثل حاضنة له، وتجعل من القضاء عليه عملية صعبة، قد تكون مصحوبة بآثار عكسية خطيرة. الحاضنة هي ما تسمى الجماعات الجهادية، وهي كثيرة ومتعددة، كما يظهر في بلد، مثل سورية وليبيا، وحتى مصر. فالقضاء على داعش في بلد مثل سورية، مثلاً، قد يصب في مصلحة جماعة النصرة التابعة للقاعدة، وهو ما لا يتمناه الغرب والولايات المتحدة، والقضاء عليها في سيناء قد يصب في حساب صعود القاعدة، من خلال تنظيم المرابطين الذي أعلن عنه هشام العشماوي، أخيراً، بل إن بعضهم يرى أن قضاء الجيش المصري على قادة من "أنصار بيت المقدس" منذ يوليو/ تموز 2013 ساهم في مبايعة التنظيم داعش في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، بحثاً عن الدعم والمدد، والنظر في خريطة الجماعات "الجهادية" في دولة، مثل ليبيا، يكشف عن مدى تعقيدها إلى درجة يصعب معها تتبع الجماعات المختلفة، والفوارق بينها وأماكن نفوذها، والأمر نفسه ينطبق على سورية.
ثالثاً: انهيار أكثر من دولة عربية، وعجزها عن القيام بوظائف أساسية يوفران عاملاً قوياً لتمدد هذه الجماعات بالشكل الراهن، فالواضح أن هذه الجماعات لم تنشأ من فراغ، ولا توجد بهذه الكثرة حالياً لسبب هامشي، فهي توجد لأنها توفر وظائف أساسية جداً، باتت غائبة، بعد أن انهارت أكثر من دولة عربية، كما هو الحال في سورية والعراق وليبيا واليمن، وباتت عاجزة عن القيام بوظائف أساسية، وفي مقدمتها الأمن.
وهنا يتحدث بعضهم عن بعض مزايا داعش، والذي يستخدم حداً هائلاً من العنف، للحفاظ على النظام والأمن في المناطق التابعة لسيطرته. ويأتي مع العنف سعيه إلى توفير الخدمات الأساسية، كالمواصلات والصحة والتعليم وحل الصراعات بين الكيانات المحلية كالقبائل، فضلاً عن محاولات تطوير نوع من البيروقراطية، حيث القوانين والإجراءات الموحدة. ولهذا، يسمي داعش نفسه دولة، ويسعى إلى ترويج نفسه تحت هذا المسمى، ليميز نفسه عن غيره من الجماعات، ويصوّرهم مجرد جماعات مقاتلة، لا توفر الخدمات التي يوفرها، أو تتميز بالتعقيد البيروقراطي الكافي.
وهنا، يشير بعضهم إلى وجود بعض ضباط الجيش العراقي السابق بين قيادات داعش، وتوليهم مناصب إدارية رئيسية في مدن، كالموصل العراقية والرقة السورية، واستفادة داعش من خبراتهم التنظيمية.
رابعاً: انتشار داعش الجغرافي الكبير، وامتداد شبكته في أكثر من دولة، مثل مصر وليبيا وتونس ونيجيريا واليمن وبعض دول الخليج، يعطي داعش ميزة نسبية، هي القدرة على التضخيم من صورته، وتعويض الخسائر التي يتعرض لها في مكان ما.
فلو تعرض داعش للتراجع في كوباني السورية مثلاً، أو في تكريت العراقية، فقد يكثّف هجماته في سرت الليبية، كنوع من التعويض، أو قد يقوم بعمليات انتحارية في دول خليجية أو أجنبية، ليستخدمها مادة دعاية تقول لمسانديه إنه "باقٍ ويتمدد". وهنا، يظهر حرص داعش على استخدام وسائل الإعلام الجديدة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي لترويج أنشطته، بكثافة، وبأكثر من لغة، وعن طريق نشطاء ومريدين عديدين.
خامساً: على الرغم من تمدد داعش في أكثر من دولة، لا توجد استراتيجية دولية واضحة لمحاربته، بل إن بعضهم يرى أن الانقسام الدولي في مواجهة داعش أحد أهم أسباب بقائه وتمدده، فالأطراف الدولية تمتلك أجندات متناقضة بوضوح في التعامل مع داعش، ما يصب في صالحها.
تركّز الولايات المتحدة، مثلاً، على محاربة داعش في العراق أولاً، ثم في سورية من دون توفير حل للأزمة السورية نفسها. وفي العراق، لا تبذل أميركا الجهد الكافي للضغط على الحكومة العراقية وإيران، لإعادة بناء الجيش العراقي، والتوقف عن استخدام المليشيات الشيعية، والتي باتت تلعب الدور الرئيسي تقريباً في مواجهة داعش، ما يزيد الأمر تعقيداً.
وفي سورية، تريد أميركا تدريب جيش سوري من المعارضين المسلحين، قوامه 15 ألف مقاتل على مدى ثلاث سنوات، بمعدل خمسة آلاف مقاتل سنوياً بداية من العالم الحالي، على أن يتولى هذا الجيش محاربة داعش، من بين أهداف أخرى. ولم تستطع أميركا، حتى منتصف العام الحالي، تجهيز أكثر من عشرات المقاتلين السوريين، وهو ما يثير التساؤل حول الجدول الزمني الذي وضعته أميركا لمواجهة داعش وإضعافه، ولا نقول القضاء عليه.
أما اعتماد أميركا على الأكراد لمحاربة داعش في شمال شرق سورية، وعلى الحدود مع تركيا، فهو يثير استهجان تركيا بقوة، كما أن دعم أكراد العراق يثير مخاوف الحكومة العراقية المركزية. وغياب حل حقيقي للأزمتين السياسيتين، العراقية والسورية، يعني استمرار أسباب بقاء التنظيم الرئيسية في مناطق تمركزه الرئيسية.
وفي مصر، تريد السلطات الحاكمة أن تجعل من حربها ضد التنظيم في سيناء حرباً إقليمية، وربما دولية، ضد كل منظمات ما يسمى الإسلام السياسي، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، وهو أمر ترفضه قوى دولية كثيرة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. وتنشغل أوروبا بحماية نفسها من تدفق المهاجرين، وتنشغل بعض دول الخليج بصراعات مع إيران، وتنشغل أخرى بصراعها مع قوى التغيير السياسي.
ويقول بعضهم إن أي حلول جادة لمواجهة داعش في الشرق الأوسط سوف ترتبط بصعود نظام شرق أوسطي جديد، يحقق بعض الاستقرار بعد فترة الربيع العربي، وحتى هذه اللحظة، العدالة غائبة والصراعات مستمرة، ولا نظام واضحاً ومستقراً في الأفق. وهي ظروف وأوضاع تشكل، في مجملها، أسباباً حقيقية لقوة داعش واستمراريته فترة.