في أزمة أفريقيا الوسطى

05 أكتوبر 2018
+ الخط -
لم تكتفِ جمهورية أفريقيا الوسطى بأنّها تحمل اسم القارّة المنكوبة فحسب، وإنّما أيضاً معاناتها من صراع الحركات المسلحة والمتمرّدة، ما أدخلها في دوامةٍ من العنف سادت بفعلها الأزمة السياسية والأمنية والإنسانية والحقوقية. وبالإضافة إلى التداعيات الإقليمية، لم يتوقف مسلسل الصراع وانعدام الأمن وعدم الاستقرار، منذ بدأت المواجهات المسلحة بين مليشيا أنتي بالاكا، ذات الأغلبية المسيحية وتحالف سيليكا المتمرّد ذي الأغلبية المسلمة، وأدخلت البلاد في حرب أهلية منذ سنة 2012. وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام في يناير/ كانون الثاني 2013، إلّا أنّ المتمردين سيطروا على العاصمة بانغي في مارس/ آذار من العام نفسه، وطردوا منها الرئيس السابق، فرانسوا بوزيزي.
تتجدّد معاناة أفريقيا الوسطى المصنفة من الدول الأقل نمواً في العالم، فبعد إعادة تشكيل الحكومة، بسط متمردو سيليكا تحت اسم الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى سيطرتهم على شمال البلاد. وهذا الوضع هو تطور طبيعي للنزاع الجيوسياسي على منطقةٍ تزخر بالثروات الطبيعية، حتى استطاعوا تكوين دولة داخل الدولة. وعلى أثره، خرجت الأزمة هناك عن السيطرة، على الرغم من مسارعة الوساطة الدولية والأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية بتحرّك حاسم. ومنذ بداية العنف الذي أغرق البلاد في فوضى أمنية، تبنّى مجلس الأمن الدولي مشروع قرار قدّمته فرنسا، يسمح باللجوء إلى القوة، بعد أن تجاوزت الأزمة مداها، وبعد أن عدّلت فرنسا تبنيها تطبيق خيار الحل السياسي أولاً. ولكن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة، متعدّدة الأوجه، لبسط الاستقرار في أفريقيا الوسطى (مينوسكا) المكلّفة بمهمة حماية المدنيين، لم تستطع حتى حماية نفسها، حيث تتعرّض للهجوم بين حين وآخر، منذ سمح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بنشرها عام 2014.
سادت، فترةً، فكرة الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، التي أعلنها في دكار في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 أنّ مستقبل أفريقيا سيُبنى عبر تعزيز قدرة الأفارقة على إدارة أزماتهم. فقد رفض في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2012 التدخل العسكري الفرنسي في الأزمة، 
معتبراً أنّ زمن التدخل العسكري قد ولّى، ومحاولةً منه لتجميل صورة فرنسا وإنهاء دورها شرطيا في أفريقيا. واكتفت فرنسا وقتها بنشر قوةٍ من 250 جنديا في مطار بانغي، لحماية رعاياها وإجلائهم عند الحاجة، ولكن تغييرا دراماتيكيا حدث في موقف فرنسا، لعبت فيه الأحداث في أفريقيا دوراً كبيراً.
بُني رأي هولاند على أحداثٍ مشابهةٍ، حيث تدخل الجيش الفرنسي في ساحل العاج عام 2011. ثم كانت فرنسا أول من نفّذ الضربات الجوية على قوافل معمر القذافي، إذ قامت الطائرات الفرنسية بأكثر من 25% من الطلعات الجوية في ليبيا في عمليات حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي بدأت في مارس/ آذار 2011، في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. أما في عهد هولاند فكان التدخل الفرنسي في عمليات القتال في مالي فور صدور قرار مجلس الأمن في 10 يناير/ كانون الثاني 2013، بعد أقل من عام من توليه رئاسة فرنسا، وذلك على أثر مطالبة مالي بالتدخل الدولي لمواجهة جماعاتٍ إسلاميةٍ متطرّفةٍ مسلحةٍ استولت على شمال البلاد.
من الواضح أنّ فرنسا الحالية لن تغضّ الطرف عما يجري في أفريقيا، خصوصا في مناطق نفوذها التاريخية، لرغبتها في استعادة دورها وسعيها إلى أن تكون رقماً مهماً في مجال مكافحة الإرهاب، خصوصا بعد تراجع مكانتها أوروبياً. وكذلك هي تنظر إلى الفائدة الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها من هذه التدخلات، فبعد انتهاء عمليات حلف الناتو في ليبيا دخلت الشركات الفرنسية بثقلها الاستثماري في قطاع النفط الليبي. كما بدأت إرهاصات جني ثمار تدخلاتها في مالي مما تختزنه منطقة شمال غرب أفريقيا من موارد، أهمها اليورانيوم والغاز والذهب والكوبالت. أما بالنسبة لأفريقيا الوسطى، فإنّ جفن فرنسا لن يغمض عن مخازن اليورانيوم والذهب والألماس الذي يُعتبر أهم عائدات التصدير في الدولة.
وسط هذه الأجواء، قامت الحكومة السودانية برعاية مفاوضات رسمية في نهاية أغسطس/ آب الماضي بين حكومة أفريقيا الوسطى ومجموعتي سيليكا وأنتي بالاكا، برعاية فرنسية ووساطة روسية. وقد ألزمت هذه الجيرة المضطربة على الحدود الجنوبية الغربية السودان بهذا الاهتمام منذ بداية الأزمة، على الرغم من تقلّص حدود جمهورية أفريقيا الوسطى مع السودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، من 1070 كيلومتراً إلى 380 كيلومتراً، حيث ذهبت مساحةٌ من الحدود المشتركة إلى الدولة الجديدة. لم تنقص أهمية الدولة الجارة التي تتداخل قبائلها مع السودان، على الرغم من أنّ العلاقة بين البلدين تأتي من تحت عين الوصاية التشادية. ففي قمة الخرطوم في مايو/ أيار 2011، والتي كانت بغرض إنشاء القوات المشتركة لحماية الحدود، وتنشيط البروتوكول العسكري بين السودان وتشاد، تم إشراك جمهورية أفريقيا الوسطى ضمن منظومة القوات المشتركة السودانية التشادية. وجاء زجّ أفريقيا الوسطى بسبب موالاتها تشاد، وليس لأسباب تباحثتها الخرطوم، لوضع أهمية هذه الدولة بالنسبة للسودان في الاعتبار.
أما أهميتها إبّان اندلاع الأزمة، فتأتي من حدودها المباشرة لإقليم دارفور الذي شهد حرباً منذ العام 2003. وبسبب هذه الحرب، حدثت زعزعة وفوضى أمنية في الإقليم، حتى بات تحرّك العصابات على الحدود، والتي تستتر بنشاط الحركات المتمردة في كلٍّ من السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى، أمراً عادياً.
لم يكن من الحكمة وقتها تدخّل السودان في هذه الأزمة، بخلاف إعلان اهتمامه بما يحدث 
هناك، إلّا بمقدار القلق الإقليمي العام، فموقف السودان كان يكتنفه تعقيدٌ كثير بسبب الصراعات وملاحقة الحركات المتمردة في إقليم دارفور. ومما ساهم في تشكيل موقف السودان الراغب في التدخل مع عجزه هو تجاهله المتعمد في اللقاءات الإقليمية والدولية التي تمت بشأن الأزمة منذ اندلاعها، فلم يكن السودان عضواً في لقاء المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، كما أنّه لم يكن مرغوباً في حضوره قمة باريس في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2013 ضمن ست دول، أوضحت فرنسا أنّ قادتها يواجهون مشكلات مع القضاء الدولي. أما وقد تبنّى الاتحاد الأفريقي في يوم 28 سبتمبر/ أيلول المنصرم مبادرة السودان وجهوده لإحلال السلام في أفريقيا الوسطى، ضمن إطار المبادرة الأفريقية للسلام والمصالحة، فإنّه، من ناحية، سيضيف عبئاً جديداً على السودان، ومن ناحية أخرى، يصبّ فيما يتم تثمينه للسودان من أدوار وساطة قام بها أخيرا. كما أنّ حضور الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، ووزراء خارجية دول جوار أفريقيا الوسطى، إلى جانب وزراء دول أفريقية وغربية، يعطي المبادرة زخماً إضافياً، ومسؤوليةً قد ينوء السودان بحملها.
تعكس هذه الحالة التي تعاني منها جمهورية أفريقيا الوسطى، بشكل فاضح، عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه معظم بلدان القارة الأفريقية، نسبة لسيادة الأنظمة الاستبدادية ومحاولة تغييرها بعنف موازٍ. وقد أدّى عدم شرعية هذه الأنظمة إلى غياب دولة القانون، فمنذ استقلالها لم تستطع معظم الدول الأفريقية الوصول إلى صيغة تشريعٍ فعليٍّ للسلطة الرسمية، واعتمدت، في غالبها، على القوانين المستوحاة من الأنظمة القبلية، ما أعاق تنزّل مفهوم الدولة الحديثة على هذه الأنظمة، تطبيقا عمليا مبنيا على دولة المؤسّسات.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.