كان مشهد وصول السيسي إلى عرش مصر مليئاً بالصخب والتقديس والآمال، لكن من يتأمل المشهد السياسي المصري الحالي، الغارق في الأزمات، بسهولة يمكنه أن يعرف جيداً أن الأسطورة هدمت، وأن نهاية نظام السيسي باتت قريبة وطبيعية، فالرجل الذي لم ير في الفساد سبباً في أزمة مصر الاقتصادية، ورفض كلمة "تطهير المؤسسات"، خوفاً على حالتها المعنوية، أغرقه الفساد من أخمص قدميه وحتى رأسه في المشكلات، وقضت تلك المؤسسات الفاسدة على كل حليف له.
الفشل سيد الموقف
عندما أعلن السيسي ترشحه لرئاسة الجمهورية، كان مدفوعاً بالعديد من القوى الداخلية والخارجية، أملاً في تحقيق مصالحهم، إلا أن انعدام الرؤية وانسداد أفقه السياسي، واعتماده على مؤسسات أكلها الفساد، أدى إلى فشل كبير لنظامه، ما أدى إلى تخلي تلك القوى عنه، لتصبح نهاية نظامه أمراً متوقعاً من جميع المراقبين، مع اختلافهم في مدى قرب أو بعد موعد هذه النهاية المتوقعة.
اقرأ أيضاً: إمبراطورية الجيش المصري (2-2)..سيطرة عسكرية على الثروة السمكية
الفشل السياسي
تعد الرغبة في تحقيق استقرار سياسي في مصر، يقوم على القوى التي رفضت حُكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وبناء نظام سياسي جديد يُساهم في بناء الدولة، أحد الأسباب الجوهرية لدعم السيسي داخلياً وخارجياً، إلا أن تعامله مع الشأن السياسي على طريقة المقاولات التي تتكفل بها الهيئة الهندسية، دمر العملية برمتها. فبعد دعوته المضحكة بجمع كل التيارات السياسية في قائمة انتخابية واحدة، والتي تتنافى مع فكرة العملية الانتخابية بالأساس، القائمة على المنافسة، سلم الرجل الانتخابات برمتها للأجهزة الأمنية، لتخرجها في مشهد مضحك حتى البكاء، لم يُقنع أحداً، لا داخلياً ولا خارجياً، ما أدى إلى مقاطعة شعبية واسعة، لا تشي سوى بعدم اقتناع الشعب المصري بهذه المسرحية الهزلية.
اقرأ أيضاً: تجربتان في حمل المعارضة السلاح.. لماذا فشلتا؟
الفشل الاقتصادي
حقق السيسي في الشأن الاقتصادي فشلاً لم يسبقه إليه أحد، إذ بلغت الديون الخارجية في عهده قرابة 50 مليار دولار، وهو رقم لم تصل إليه منذ قرابة ربع قرن، بالإضافة إلى ديون داخلية بلغت 2 ترليون جنيه، وانخفاض غير مسبوق في الاحتياطي النقدي وتدهور في قيمة الجنيه أمام الدولار، ذلك إلى جانب إبرامه العديد من الصفقات يترتب عليها المزيد من الديون.
كما أن انسداد أفقه وطريقته العشوائية في الإدارة جعلت من حلوله أزمات بحد ذاتها، إذ استطاع في فترة وجيزة أن يعصف بأكبر مصدرين من مصادر الدخل القومي، الأول هو قناة السويس، والتي قام بعمل تفريعة جديدة لها دون استشارة أو دراسة لأرباح أو تكاليف، هذا المشروع على المدى القريب، أو لحركة التجارة العالمية، وأصر على سرعة إنهاء المشروع غير المفهومة من منظور البحث عن أي إنجاز ولو عديم الجدوى، ليصبح المشروع واحدا من أكثر المشروعات فشلا في تاريخ مصر، في ظل ظرف اقتصادي صعب للغاية.
خلال الثلاثة أشهر التي تلت افتتاح التفريعة، انخفضت إيرادات القناة بتفريعتها الجديدة بمبلغ 102 مليون دولار، نتيجة انخفاض حركة التجارة العالمية، وهو ما كان متوقعا، نظراً لحالة الاضطراب التي تشهدها المنطقة، إلا أن هذا الانخفاض تُضاف إليه فوائد تكلفة حفر التفريعة، والتي تبلغ 6.8 مليارات جنيه سنوياً.
أما المصدر الثاني من مصادر الدخل التي أتى عليها نظام السيسي فهو السياحة، إذ تراخي النظام ودلل أجهزته الأمنية وصمت على فسادها، ما جعلها تدمر هذا المصدر من خلال حادثين جعلا من مصر منطقة خطر على السياح؛ الأولى حادثة قصف الطائرات الحربية لفوج سياحي مكسيكي، الأمر الذي كان له أثر كبير على سمعة مصر أمنياً، والأخرى عملية تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء عن طريق زرع قنبلة تم إدخالها عن طريق مطار شرم الشيخ نتيجة للتراخي في عملية التأمين، والتي كانت تداعياتها الفورية مؤلمة على قطاع السياحة، ما أدى إلى خسارته أكثر من 40 % من إيراداته على الفور، بإجلاء السياح الروس والإنجليز، فضلاً عن التداعيات المستقبلية على القطاع الذي تم تدميره.
اقرأ أيضاً: اليسار في السعودية.. ندرة المراجع وغياب التوثيق
سقوط أسطورة المخلص
بعد مرور أقل من نصف فترة حكم السيسي الأولى، أيقنت معظم القوى الداعمة له، أنه لن يُفلح في إحداث أي نوع من أنواع الاستقرار ولن يختلف كثيراً عمن سبقوه وتوالت القوى الداعمة في الكفر بنظامه، واحدة تلو الأخرى.
اقرأ أيضاً: الناصر صلاح الدين.. بين دراما يوسف شاهين والواقع التاريخي
الفقراء
تعلقت آمال نسبة كبيرة من فقراء مصر بالسيسي، كمرشح المؤسسة العسكرية لرئاسة مصر، من أجل انتشالهم من الفقر والأوضاع الاجتماعية الصعبة، كما ساهمت حملة الدعاية الإعلامية المُمنهجة في رفع سقف توقعاتهم نحو الرجل، لكن نسبة كبيرة منهم، حتى الآن، بدأت تدرك أن ما جرى هو عملية خداع كبيرة تمت عن طريق أجهزة الدولة، والتي عملت على تولية أحد رجالها مقاليد الحكم لتحقيق مصالح أفراد وقيادات وحلفاء تلك الأجهزة، جرّاء فشل السيسي الاقتصادي وحلوله العقيمة وحالة الركود الاقتصادي، وارتفاع الأسعار، وتردي البنى التحتية والخدمات نتيجة الإهمال والفساد المسكوت عنه، والذي تضاعف على يدي نظامه، حتى اتضح أن التنازل عن الحرية لن يعوضه تحسن في العدالة الاجتماعية، ومن ثم التأكد من أنه لا يمثل الحل الذي كانوا يأملونه، وإنما هو مشكلة كبيرة في حد ذاته.
اقرأ أيضاً: بالوثائق.. هكذا روّج السيسي نظامه في "كي ستريت"
شركاء الحكم
مثّل تحالف مركب، مكون من أجهزة أمنية ورجال أعمال ووسائل إعلام، الداعم الأكبر للسيسي حتى يصل إلى منصب رئاسة الجمهورية، وكان دعم تلك الأطراف هدفاً للحفاظ على مصالحها، إلا أن استمرار السيسي أصبح خطراً على تلك المصالح، إلى جانب مساهمة بعض هؤلاء الشركاء في تشقق النظام، بما قاموا به من أفعال إجرامية، وتوحش في التعامل مع المواطنين، إذ إن الأجهزة الأمنية والعسكرية التي سخرت كل ما تملك من قوى لدعم السيسي أصبحت وبالاً على نظام السيسي، بإجرامها في التعامل مع الشعب، والذي رآه الكثيرون انتقاماً لما حدث لتلك الأجهزة إبان ثورة يناير، فيما يحاول عدد من أركان عالم المال والأعمال، اللعب على وتر التلاحم مع الشعب وتصوير نفسه خارج المنظومة الحاكمة، كذلك فقد فضّل بعض رجال الأعمال الابتعاد عن النظام خوفاً على مصالحهم، وهو ما دفع بعضهم للابتعاد عن المشهد خوفاً من الانهيار أو لسوء البيئة الاستثمارية الحالية، أو خوفاً من غضب الأجهزة الذي أدى للتنكيل ببعضهم بعضاً لخلافات سياسية.
أما وسائل الإعلام، فدائماً ما كانت مطيعة للأجهزة الأمنية المصرية أغلب الوقت، ورجال الأعمال هم المالكون لها، لذا فإن تغيّر لهجة التقديس التي اتبعتها تلك الوسائل إلى الانتقاد والتحريض، يدل على أن حالة الإنكار لم تعد تجدي نفعاً بعد أن غطى الفشل صورة السيسي بالكامل، كما يُفصح الأمر عن تململ بعض الأجهزة مما يفعله النظام، وبطبيعة الحال لن تعجز تلك الوسائل في تغيير وجهتها وتحميل السيسي الفشل حال سقوطه، إعمالاً بمبدئهم الوحيد "عاش الملك.. مات الملك".
اقرأ أيضاً: المحكمة الدستورية والسيسي.. لا أرى لا أسمع لا أحكم
الفشل الخارجي
أما عن العلاقات الخارجية، فقد خيب السيسي آمال كل القوى التي دعمته في بداية ترشحه في مواجهة القوى الرافضة لطموحاته، فالرجل ذهب بوعوده إلى أبعد مما يملك وأبعد مما تتحمل حالة مصر الاقتصادية والسياسية، إلى جانب تدخله في صراعات هي أقوى وأكبر منه بكثير.
وعلى الرغم من دعم السعودية للرجل بكل قوتها الاقتصادية والسياسية إبان عهد الملك عبد الله، وبعد أن أطلق وعده الشهير "مسافة السكة"، كناية عن عزمه مساندة الخليج لمواجهة أي تهديدات تلحق به عسكرياً، صارت "السكة" أبعد مما ظن أثناء اجتياح التحالف السعودي اليمن، ولم يشارك بالقدر المنتظر منه، تزامناً مع وقوفه إلى الجانب الروسي في الشأن السوري، والمجاهرة بدعمه لاستمرار نظام بشار الأسد، في مواجهة الرغبة السعودية في الإطاحة به، وهو الأمر الذي أغضب النظام السعودي وأصبح مكشوفاً للجميع بالرغم من العبارات الإنشائية التي يرددها الطرفان، والمؤشرات على ذلك كثيرة مثل استقبال المملكة لرموز كبيرة من جماعة الإخوان مؤخراً، بعد وقت من حظر الجماعة، وتحول لغة خطاب قناة العربية تجاه الأحداث في مصر، بعد أن تدخلت المملكة لوقف برنامج باسم يوسف خوفاً على نظام السيسي من سخريته، وكذلك صمت السيسي عما حدث للسفير السعودي من رئيس مجلس إدارة الأهرام، بعد استقبال يشي بتغيّر الأمر من قبل الملك للسيسي على متن طائرته، كل ذلك يكشف بعض المسكوت عنه، إلى أن وصل الأمر إلى أن ترددت بعض الأنباء وسط النخبة المصرية، عن وضع بعض الأجهزة في المملكة سيناريوهات لما بعد السيسي.
كذلك فقد الرجل ثقة آخرين من داعميه، وأملوا فيه استقراراً يحقق مصالحهم واستقرار المنطقة، إلا أنه خذل الجميع، فلم يعد أسلوب الإغراءات الذي اتبعه السيسي مع بعض الدول لدعمه خارجياً يجدي نفعاً، لأن خروج السيسي من المشهد لن يؤثر على مصالح تلك الدول التي ستجد طريقها مع القادم، ليصبح الجميع في حالة ترقب لما ستأتي به الأحداث في الفترة القادمة وبعض التكهنات لسيناريوهات ما بعد السيسي.