وتعتبر الحالة الاستثنائية التي فرضها العدو غير المرئي، غير مسبوقة طيلة الخمسين سنة الماضية على كافة الصعد، وتحدياً للأوساط العلمية والتقنية الفرنسية لإيجاد حلول إبداعية لتقليل الخسائر الناتجة عن هذا الوباء.
في المقابل، شكّلت الأزمة الحالية فرصة ذهبية للباحثين والمختصين بعلوم الأحياء والتلوث البيئي، فعلى سبيل المثال وفرت لهم أرضية واقعية بعدما كانوا يعتمدون في الكثير من تجاربهم على افتراض قيم نظرية ونماذج رياضية ومحاكات حاسوبية لرصد تغيرات تلوث الهواء عندما تتوقف الأنشطة البشرية المتهمة بالمسؤولية عن الكثير من الكوارث البيئية التي نعيشها وسيعيشها كوكبنا في العقود القليلة القادمة.
سابقاً كان اختصاصيو الرصد البيئي في فرنسا عموماً وباريس خصوصاً المكتظة بالسكان، ينتظرون ذروة العطلة الصيفية في شهر آب/ أغسطس، لإجراء بحوث ودراسات وتجارب قريبة من الواقع حول تأثير النشاط البشري على التلوث حيث يكون معظم سكان العاصمة في إجازاتهم خارج المدينة.
انخفاض غازات الكربون
شهدت باريس انخفاضاً ملحوظاً في نسب انبعاث غازات الكربون في الأيام التالية لإعلان الحجر الصحي. يظهر الجدول التالي انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون منذ إعلان الحجر رسمياً في السادس عشر من مارس/ آذار الماضي، وفي الأيام الأربعة التالية، وتشير النتائج إلى أنه في اليوم التالي انخفضت نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة 17 بالمائة وفي اليوم الثالث وصلت لثلاثين بالمائة، وفي يوم الجمعة نهاية الأسبوع انخفضت بنسبة 32 بالمائة.
ويعرض الجدول نسب انخفاض هذا الغاز حسب القطاع المسؤول عن انبعاثه، وتشير نتائج الرصد إلى أنه في اليوم الرابع انخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون على الطرقات العامة بنسبة 72 بالمائة، نتيجة انخفاض أعداد السيارات بنسبة 80-90 بالمائة، كما انخفضت نسبة الانبعاث الناتج عن قطاع الطيران بنسبة 55 بالمائة، في حين زادت نسبة الانبعاثات في المباني السكنية عن قيمه نِسبها السابقة قبل الحجر، واستقرت في الأيام التالية نتيجة التزام السكان بيوتهم وممارستهم للأنشطة المنزلية بانتظام.
وتعتبر غازات أكسيد الكربون من أكثر الملوثات شيوعاً، وأبرزها غازا أول وثاني أكسيد الكربون، واللذان يعتبران غازين سامين ويسببان نقصا في الأكسجة والغثيان والتعب والصداع عند الإنسان، وعند التعرض لتراكيز عالية لمدة طويلة يسببان الاختناق والموت.
ويلعب أول أكسيد الكربون دوراً محورياً في تشكيل الأوزون الضار من خلال التحول لثاني أكسيد الكربون، هذه التفاعلات الكيميائية وما ينتج منها تزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري الضارة في كوكبنا.
صورة مذهلة
نشرت وكالة الفضاء الأوروبية صورة حديثة في الخامس والعشرين من شهر مارس/ آذار من العام الجاري وصفتها بالمذهلة، تظهر تراجع نسبة غازات أول أكسيد النتروجين في سماء إقليم "إل دو فرانس" ومركزه العاصمة باريس وفرنسا عموماً، وقارنتها مع صورة أخرى التقطها أحد الأقمار الصناعة التابعة للوكالة في الرابع عشر من الشهر نفسه، أي قبل يومين من إعلان الحجر الصحي رسمياً، المقارنة بين الصورتين توضح مدى تأثير الأنشطة البشرية بمختلف أشكالها على زيادة تلوث هواء كبرى العواصم الأوروبية.
فيما توضح الخرائط الثلاث التالية نتيجة دراسة أصدرها منذ أيام مرصد جودة الهواء في منطقة "إل دو فرانس" والتابع لوزارة البيئة ومقره باريس انخفاض نسبة انبعاث أول أكسيد الآزوت في اليوم التالي لإعلان الحجر الصحي وزيادة الانخفاض في التاسع عشر من الشهر نفسه.
وانخفضت نسبة المتوسط اليومي لأول أكسيد الآزوت (النتروجين) بنسبة تزيد عن 60 بالمائة خلال يومين نتيجة انخفاض أعداد السيارات في شوارع العاصمة بنسبة 80-90 بالمائة.
ويوضح الجدول المتوسط اليومي لنسب انبعاثات غازات أكسيد النتروجين حسب القطاع المسؤول عنها، ويلاحظ أنه رغم انخفاض الانبعاث الناتج عن كل القطاعات بشكل كامل، حافظ قطاع السكن على نسب مرتفعة مقابل القطاعات الأخرى، بسبب التزام غالبية سكان إقليم "إل دو فرانس" وعاصمته باريس والبالغ تعدادهم قرابة 12 مليون نسمة منازلهم، واستخدامهم للتدفئة بأشكالها المتعددة بشكل مستمر.
ويعتبر أكسيد النتروجين من أكثر ملوثات الهواء شيوعاً، ولها تأثيرات سميّة ومهيجة للجهاز التنفسي والعين والجلد، ويلعب غاز ثاني أكسيد النتروجين دورا رئيسياً في تهيج القصبات الهوائية والتهاب الرئة والربو، وخصوصاً عند الأطفال.
كما تساهم هذه الغازات في تشكل ظاهرة الأمطار الحامضية، وتشكيل الأوزون الضار، وفي تدهور طبقة الأوزون المفيدة، وكذلك تشكل عاملاً هاما لتزايد ظاهرة الاحتباس الحراري، وترسبها على المدى البعيد في التربة، يؤدي إلى خلل في دورة حياة التربة، والتي تنتقل منها إلى النباتات والغابات، ما يؤدي لتراجع نموها.
الجسيمات الدقيقة موجودة
حافظت الجسيمات الدقيقة بأحجامها المجهرية المختلفة على نسبها مع تغيرات طفيفة جداً، ويظهر الجدول التالي متوسط نسبها اليومي قبل الحجر وبعده بأيام قليلة، ونلاحظ تناقص متوسط النسب اليومية في قطاع المواصلات، وزيادتها قليلاً بعد الحجر ضمن الأبنية السكنية نتيجة التزام السكان لأماكن سكنهم واستخدامهم لوسائل التدفئة بمختلف أنواعها.
تضم عائلة الجسيمات الدقيقة أو الجسيمات العضوية المتطايرة، الجزيئات التي تتكون من الهيدروجين والكربون (الهيدروكربونات) كالبزنوالتولين، وتتواجد في حالتي الغاز أو البخار الظروف العادية من درجة الحرارة والضغط الجوي.
وتشكل وسائل النقل والصناعات النفطية والكيميائية وصناعات المذيبات والدهانات، إضافة إلى تدفئة المباني التي تعتمد على احتراق الوقود التقليدي أو استخدام الخشب كوسيلة تدفئة أبرز مصادر هذه المواد.
وتؤثر هذه الجسيمات المجهرية على صحة الإنسان وخصوصاً على الرئة والجهاز التنفسي بشكل عام، كما تسبب طفرات وراثية وأمراضا سرطانية، أما تأثيرها على البيئة فيظهر جلياً على المباني والمعالم الأثرية، والتي تتطلب طرق معالجة كيميائية خاصة لتنظيفها من ترسبات هده الجسيمات، والأمر الدي يكلف أوروبا حوالي 9 مليارات يورو سنوياً للحفاظ على سلامة معالمها الأثرية.