غليان الشارع العربي مجدّداً

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
لم يبتكر الفكر السياسي أفضل من الديموقراطية، حتى يجسّد إرادة الشعب في أنظمة الحكم التي تسيّر الدولة، فمنذ اخترع اليونان هذه الديموقراطية، ظل البشر يبحثون عن توسيع المشاركة في اتخاد القرار السياسي. وطبعاً لم تكن الديموقراطية، قبل آلاف السنين، تعني ما تعنيه حاليا، إذ إنها لم تكن تسمح بالتفكير في "غير المواطنين"، أي أولئك الفقراء والغرباء وغيرهم من الشرائح الاجتماعية المنبوذة التي لم تكن "اللياقة" السياسية تمنحهم آنذاك صفة المواطنة. ومع ذلك، ظلت تتطور حتى أصبحت مرادفة لإرادة الناس الحرّة. وغدت الأنظمة غير الديموقراطية ترادف في الثقافة السياسية الراهنة التنكيل بمواطنيها ومصادرة حقوقهم وحرياتهم الأساسية. 
ظل الشوق إلى الديموقراطية يراود الشعوب العربية، أو على الأقل نخبها، بشكل حاد منذ استقلال هذه الدول، وصعود أنظمة "وطنية"، ولكن المنجز كان ضعيفا على امتداد أكثر من نصف قرن، بل ربما سجلت بعض حالات التراجع على الهامش الليبرالي الذي وُجد في الستينيات تحديدا. غير أن شوارع بلدان عربية عديدة سرعان ما عادت إلى مطلب الديموقراطية، فعرفت عواصم تلك البلدان ومدنها خلال سنتي 2011 و2012 موجات صاخبة من المظاهرات والإضرابات وصلت حد الانتفاضات والثورات. وتزامن ذلك مع تحرّكاتٍ لا تقل عنفوانا عرفتها البلدان الديموقراطية العريقة: الولايات المتحدة الأميركية، إسبانيا، اليونان وغيرها من البلدان.. كان جل هؤلاء المحتجين من الشبان والفئات المقصية من ساحة الإنتاج والخدمات الاجتماعية. لا يعاني هؤلاء من اضطهادات سياسية، إذ هذه البلدان ديموقراطية راسخة. ألهمت التحركات التي عرفها الشارع العربي حركاتٍ اجتماعيةً وشبابية عديدة في البلدان الغربية تلك، ولم يسلم إلا القليل منها، ففي فرنسا مثلا، تم اندلاع احتجاجات "السترات الصفراء" صاخبة، استمرت أشهرا عديدة. وإذا كان السبب يبدو لبعضهم بسيطا، فإن تلك الاحتجاجات قد شكلت حرجا للرئيس ماكرون، القادم حديثا، متباهيا بتجديد الطبقة السياسية. وقبل ذلك، احتل الشباب شوارع مدن أميركية عديدة. والأمر نفسه سجلته مدن إسبانية وبريطانية. الدوافع مختلفة عما حدث في البلدان العربية، ولكن ثمّة تبرّم بهرم الديموقراطية وشيخوختها في هذه الحالات. ففي بلداننا، لم تسع تلك التحرّكات إلى تجديد الفكر السياسي بدرجة أولى، بل إلى تحقيق الديموقراطية، والحرص على مشاركة الشعب في تقرير حياته السياسية. ولعل شعار "الشعب يريد" كان الملهم لجل تلك التحركات. سقطت أنظمة وصعدت أخرى، وجرت بعد ذلك مياه عديدة، وكانت قدرة النخب على التفاوض وموقف الجيش والمجتمع المدني، فضلا عن سياقات الجيوسياسية، محدّدة للمآلات.
غير أن الواضح أن حالات النجاح النسبي للإصلاح الديموقراطي (تونس ولبنان مثلا) لم تسلم
بدورها من احتجاجاتٍ عاصفة، ظلت تبحث عن مشاركةٍ سياسية لا تكتفي بوضع ورقة في صناديق الاقتراع، بل تنشد ديموقراطية تحسّن من معاش الناس.
الديموقراطية فاتنة، ولكن لا أحد يشك في أن فيها عللا تراكمت في السنوات الأخيرة، حتى بدت مريضة. ولذلك يبدو ما يحدث في بعض البلدان العربية، على غرار لبنان والعراق والجزائر والسودان، بليغا في هذا الصدد. لم تنزل الحشود إلى الشارع للمطالبة بالديموقراطية، بالمعنى الكلاسيكي الليبرالي للكلمة فحسب، بل هناك إحساس يتنامى بأن الديموقراطية السياسية غدت، في السنوات الأخيرة، عاجزة عن تمثيل الشعب، وأنها تضع وساطاتٍ غير أمينة أحيانا في نقل تطلعات الناس، وأن التمثيلة في ظل سلطة المال والإعلام والتلاعب بالعقول لم تعد في مأمن من التحايل الذي يحوّل أصوات الناخبين إلى رقم لتصعيد أشخاص عادة ما يتنكّرون لهم.
وفي حالتي العراق ولبنان (حالات ديموقراطية محكومة بسقف طائفي)، قد تكون الدوافع مختلفة، إذ لأول مرة يخرج الشباب في أفق مواطني وطني، متخففا من ثقل الطائفية والمذهبية. يعي الشباب هناك أن الديموقراطية التي قُدمت لهم لم تعد قادرةً على تمثيلهم تمثيلا مواطنيا، وأنها تنظر إليهم على اعتبارهم أصواتا تنطق باسم طوائفهم أولا، وهو ما يتنافى مع إرادة الشعب الموحد، خصوصا في ظل تواطآت طائفية، تتبادل فيها العطايا والمزايا السياسية ضمن توافقاتٍ فوقية مع تعميم للفساد والتطبيع معه.
في الحالات الثلاث، أي سواء تعلق الأمر بشعوب الديموقراطيات العريقة أو شعوب الثورات العربية في موجاتها الأولى، أو شعوب الموجة الثانية منها (السودان، الجزائر، العراق..) فان الديموقراطية المنشودة لن يمكن اختزالها مجدّدا في ديمقراطية التصويت، بل هي أعمق تبحث عن إنصافهم اجتماعيا على قاعدة المواطنة والمشاركة الحقيقية. ديموقراطية متحرّرة من القفص الطائفي والمذهبي الذي خرق معانيها الحقيقية، واختزلها في صندوق اقتراعٍ لا يعكس حقيقة مغزى الديموقراطية ولا غاياتها: إرادة الشعب الحر.
ما يحدث في العراق ولبنان والجزائر يؤكد، مرة أخرى، وهْم ما روج بأن "الربيع العربي" صفحة طويت.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.