لم تعد الحاجة أم محمد عبدو (55 عاماً) تثق بالمياه التي تصل بيتها، في خان يونس، نتيجة تلوّثها، ما جعلها تعتمد في شربها وطبخها بشكلٍ كلي على صنابير المياه العامة المتوفرة في بعض أحياء المدينة.
فالمياه التي تصل إلى بيت أم محمد، كما كل المواطنين، لا يمكن استخدامها، نظراً لعدم صلاحيتها للكثير من الاستخدامات وخاصة الشرب والطعام، فنسبة الأملاح والأحماض فيها عالية جداً قياساً مع ما تقره النسب العالمية.
وقالت أم محمد لـ"العربي الجديد": منذ سنوات ونحن نشتري المياه المحلّاة للشرب، بالإضافة إلى استخدامنا المياه الموجودة في حيّنا للطبخ والاستحمام، أما مياه البلدية فلا نستخدمها إلا للضرورات ولبعض الأمور كتنظيف البيت.
"احتياجاتنا من المياه أكثر بكثير من تلك الموجودة في الخزان الجوفي الذي يُستنزف"، هكذا يقول المدير العام لمصادر المياه في سلطة المياه بغزة، مازن البنا، مشدداً على أن قطاع غزة يعتمد بشكلٍ أساسي على الخزان الجوفي الممتد على طول فلسطين التاريخية، غير أن ما تشكّله نسبة هذا الخزان داخل القطاع تتراوح ما بين 1 إلى 3% من حجمه، بينما نسبة ما تقع فلسطين عليه تصل إلى 15% من مجمله.
وأضاف لـ"العربي الجديد": "تغذية الخزان الجوفي بالمياه من مياه الأمطار في قطاع غزة تتراوح ما بين 50 إلى 60 مليون متر مكعب في المتوسط، أما في الضفة الغربية وإسرائيل فالحديث يدور عن تغذية الخزان بمعدل يتراوح ما بين 250 إلى 300 مليون متر مكعب، بالإضافة إلى 100 مليون متر مكعب تغذية صناعية".
ملوحة وتلوث
أصيب الخزان الجوفي بملوحة شديدة بسبب دخول مياه البحر وحلولها مكان المياه المستخرجة منه، إذ إن هناك آبار مياه تبعد عن البحر أكثر من كيلومترين وتختلط مياهها بمياه البحر، وفق البنا، الذي أكد أن تركيزات الكلورايد، وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية، لا يجب أن تزيد على 250 ملجراماً، غير أن نسبتها في آبار القطاع تزيد على ذلك بعشرات المرات، موضحاً أن الحد الأدنى من معدل تواجد الكلورايد في الآبار هو ألف ملجرام وتصل إلى أربعة آلاف وما فوق في الكثير من المناطق، وتلك النسب تشكّل في حدّها الأقصى ربع ما هو موجود في مياه البحر.
وأشار البنا إلى أن تداخل مياه الصرف الصحي مع الخزان الجوفي أدّى إلى ارتفاع نسبة النترات فيه، إذ إنه وفقاً للمعايير الدولية من المفترض أن تصل نسبتها إلى 50 ملجراماً في الليتر، إلا أنها تتجاوز ذلك بكثير.
في المقابل، قال نائب رئيس مصلحة مياه بلديات الساحل، ماهر النجار، إن ما نسبته 95% من مياه قطاع غزة تعاني الملوحة بمعدلات مرتفعة. وأشار، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن مصلحة المياه أنشأت عشرين محطة تحلية للمياه الجوفية بكميات تصل إلى ثمانية آلاف متر مكعب يومياً في سبيل التقليل من الأزمة، فيما أنهم يعدّون لإنشاء ثلاث محطات لتحلية مياه البحر في جنوب القطاع ووسطه ومدينة غزة بكمية إجمالية تصل إلى نحو 13 مليون متر مكعب سنوياً.
وأكد النجار أن كمية المياه التي يحتاجها قطاع غزة سنوياً تقدّر بنحو 180 مليون متر مكعب، غير أن ما يتم الحصول عليه من مياه الأمطار التي تدخل الخزان الجوفي هو 80 مليون متر مكعب في الحد الأقصى، فيما يوجد عجز سنوي في المياه يتجاوز المائة مليون متر مكعب. وأضاف أن ما تم تنفيذه من خطط هي للطوارئ، إلا أن الخطة الاستراتيجية المرصودة من المحتمل أن تكلّف حسب الدراسات 450 مليون دولار، ومن المقرر أن تنتهي في العام 2018 لإنتاج ما يقارب الـ 55 مليون متر مكعب، فيما يوجد وعود فقط من قِبل البنك الإسلامي للتنمية وبعض الدول الأوروبية لتمويلها بشكلٍ كامل.
وشدد النجار على أن الخطط البسيطة التي يتم تنفيذها من خلال إنشاء بعض المحطات الصغيرة ستحل المشكلة لمدة ثلاث سنوات، محذّراً في حال عدم حل المشكلة بشكلٍ جذري والبدء بالخطة الاستراتيجية فإن الكارثة محدقة بالقطاع لأن عدد السكان في ازدياد كبير، إضافة إلى نفاد نسبة الـ (5%) من المياه الصالحة للشرب ما بين عامي 2017 و2018.
الزيادة السكانية المتصاعدة أدّت إلى تصاعد العجز المائي في مقابل ثبات الموارد المائية منذ العام 1948 وعدم وجود أماكن أخرى تُستخرج منها مياه، وفق خبير المياه والبيئة بجامعة الأزهر في غزة الدكتور يوسف أبو مايلة، الذي قال إن درجة العجز المائي تصل إلى حد سحب المياه من الخزانات الجوفية الساحلية بأكثر من طاقتها على حساب التلوث.
وأوضح خبير المياه لـ"العربي الجديد" أن مياه البحر دخلت إلى الخزان الجوفي لمسافات كبيرة جداً بسبب استنزافه من المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، مشيراً إلى أن تقدم مياه البحر إلى داخل الخزان الجوفي لمسافة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة كيلومترات، فيما أصبحت تعتبر مصدراً وجبهة للمياه المالحة، وقد تدخل خلال فترة قصيرة جداً إلى شرق مدينة غزة وتتجاوز الثمانية كيلومترات.
أزمة متفاقمة
ويحمل أبو مايلة الآبار العشوائية وغير المرخصة مسؤولية تفاقم الأزمة، إذ إنه يوجد في قطاع غزة ما يقرب من 12 ألفا وسبعمائة بئر، عشرة آلاف منها غير مرخص، وجميعها متراصة ولا تأخذ الأساليب العلمية في حفرها، وأصبحت تشكّل مصدرا للمياه الملوثة التي تعتبر عبئاً على الخزان الجوفي.
ووفقاً لأبو مايلة، فإن مياه قطاع غزة ملوّثة بنوعين من التلوّث، الكيميائي والبيولوجي، ويؤديان إلى الكثير من الأمراض الخطيرة، فالتلوث الكيميائي يتمثل بارتفاع نسبة الصوديوم والكلورايد ويؤدي إلى انتشار الحصوات والفشل الكلوي بشكل رئيس.
أما التلوث البيولوجي، فيتمثّل في وجود النترات التي تتحول إلى نيتروزوميم والتي تساعد على تنشيط الخلايا السرطانية في الجسم، بالإضافة إلى أنها تؤدي إلى انتشار مرض زُرقة الأطفال الخطير، ناهيك عن الأمراض الجلدية وأمراض المخ والسحايا.
وطالب أبو مايلة بضرورة التحرك والعمل على إنهاء مشكلة مياه قطاع غزة ووضع حلول جوهرية لها من خلال تحلية مياه البحر، محذراً من تحوّل المياه القليلة الصالحة للاستهلاك والموجودة في قطاع غزة، بعد فترة قصيرة إلى ملوّثة كلياً وغير صالحة للإنسان والري بسبب اختلاط الخزان الجوفي بمياه البحر المالحة والمياه العادمة التي تعتبر من أكبر الأخطار المحدقة بسكان القطاع.