في إحدى غرف "متحف سرسق"، ثمة شاشة بحجم الجدار تقريباً، تتوزّع على جانبيها عشرون شاشة صغيرة. في الأولى، يعرض الفنان اللبناني غريغوري بجاقجيان (1971) مع الفنانة فاليري كشر، قصة التجربة التي قام بها بين عامي 2009 و2016 مع البيوت المهجورة في بيروت.
في الشاشات الصغيرة الثانية، ثمة ألبومات صور، تلتقط أشكال الهجر وتمثلاته: البناء المتآكل، آثار الحرب، بقايا الجدران، الغرف المهملة، الحياة الصدئة، الرطوبة المتراكمة، الطلاء المتقشر، الدرابزين المفقود، النوافذ بلا زجاج، بلاط ناقص من الأرضية؛ باختصار إنها شاشات تصف الأمكنة التي تم التخلي عنها، فانتقلت من دورها الحميم بوصفها بيتاً إلى أن تكون مساحة مؤلمة ومخيفة.
زار بجاقجيان 760 بيتاً مهجوراً في بيروت، وجمع منها 700 قطعة عثر عليها، وبدأ هو وكشر بتصنيفها وفردها على الأرض، ذلك ما يظهر في الفيديو: عملية التصنيف والفرز وترتيب الأغراض على الأرضية وكأننا في "سوق الأحد"؛ الجميع مدعو لتفقد بضاعة الذاكرة.
من بين الأغراض نجد عدّة خياطة ووصفة طبية ومجلات فنية وأعداداً قديمة من جريدة "السفير" وقطع من الدانتيل الأبيض. ثمة عدد من جريدة في صفحتها خبر عن اختطاف خمسة أرمن. يذكر الفنان أن والده اختطف قبل صدور هذا العدد بيوم. هكذا وكأن بجاقجيان يجد جزءاً من ذاكرته هو في إحدى البيوت بالصدفة، ثمة صوت يقرأ رسالة عَثر عليها، وثمة يوميات أيضاً لفتاة ضاقت ذرعاً بالحرب والعائلة والناس.
سبعة أعوام، قام الفنان خلالها بجمع مادة مشروعه "مساكن مهجورة: كشف أجهزة"، والذي يطلقه في كتاب أيضاً وفيه يضيء تفاصيل أخرى عن هذه التجربة. ومن ذلك ما كتبته كشر: "يشارك غريغوري في نزهة، مشياً في منطقة زقاق البلاط. يذهب إلى بيت ممنوع دخوله، يعود لعائلة أحد أصدقائه. يزورونه في الليل، ويضيئونه بمصباح كشاف. يسيرون حرفياً في الفضلات. ثمة أحذية في كل مكان لا يمكن تفسير وجودها ولا الرائحة الكريهة ولا سبب الرائحة".
تكمل في موضع آخر من شهادتها ويوميات رحلتها مع بجاقجيان: "يمشّط غريغوري الأحياء حياً حياً، والشوارع شارعاً شارعاً. يحاول العثور على الهدف المرغوب، بعد الجدار أو القفل يتعامل أحياناً مع أفراد".
ينقسم المعرض بشكل عام إلى أربعة أقسام؛ الأول هو الفيديو، والثاني يضم 956 صورة للعمارة من الداخل، والثالث ثماني لوحات طباعة على ورق مع نصوص وتسجيلات صوتية، والأخير يضم جرداً للمساكن المهجورة من خلال 760 ورقة بيانية، ويتواصل عرض هذا الأرشيف الفريد من نوعه حتى 11 شباط/ فبراير 2019.