09 نوفمبر 2024
عيد الضائعين
دعت صفحات مسلسل المغامرات (lost)، على مواقع التواصل الاجتماعي، المعجبين والمتابعين للاحتفال بالعيد السنوي الحادي عشر لانطلاقة المسلسل، الذي يحكي قصة مجموعة رجال ونساء، تسقط طائرتهم المتوجهة من أستراليا إلى الولايات المتحدة، في جزيرةٍ يظنونها، أول الأمر، مهجورة، فإذا هي جزيرة عجيبة، لها خصائص مختلفة عن باقي مساحات الأرض. تتوالى الأحداث مع احتكاك المسافرين بسكان "آخرين" في الجزيرة، ثم تتشعب الحكاية، لتحكي قصصاً تشبه كل واحد منّا.
لعل ثمة طرافة في أن "عيد" مسلسل الضائعين في الجزيرة يتزامن مع عيد العرب والمسلمين، الضائعين أيضاً منذ مئات السنين، بحثاً عن عودتهم إلى التأثير في الحضارة الإنسانية والتقدم، سوى أن هؤلاء المسافرين كانوا ضائعين في الجغرافيا، فيما أننا، نحن العرب المعاصرين، ضائعون في التاريخ. والأكثر أننا ضائعون، في ثورات الربيع العربي ضد الاستبداد، ولم نصل بعد إلى برّ الأمان، ولم نبصر شاطئه.
معتذراً للقارئ الكريم عن جرعة "الأنا" الزائدة التي قد يتضمنها استنادي في الحديث عن حالنا العربي على مسلسل LOST، أقول إنني أحد المولعين بهذا العمل التلفزيوني المبهر، والمسألة لا تتعلق بنجومه، ولا بجودة إخراجه وإنتاجه، بل بقصته، والتجربة المميزة فيها.
قبل سنوات، غيّرتُ محطة التلفزيون، من دون قصد، إلى محطة أخرى، فكانت تبث الحلقة الأولى من الجزء الأول من المسلسل، وجدت نفسي مشدوداً إليه، حتى حافظت على متابعة كل حلقاته، في أجزائه كافة. ومن شدة ولعي بالمسلسل، حافظت على الذهاب دورياً إلى متاجر الأفلام لابتياع كل حلقة جديدة. وخلال فترات توقف LOST بين كل جزء وآخر، كنت أسأل الباعة العارفين عن أخباره، وما إذا أعلن موعد بدء بث جزئه الجديد. وحرصت على قراءة أخباره في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، معتبراً ما يُكتب عنه يخصني.
شدّتني في LOST الفرصة التي أتيحت لكل واحد من ركاب الطائرة، لبدء حياة جديدة، غير التي خبروها في ديارهم. أتيح لهم أن يغادروا الحياة، من دون أن يموتوا، وأن يعيدوا بناء علاقات إنسانية، بعيداً عن المصالح المادية المباشرة.
حلمت دائماً، مثل كثيرين من أقراني، في عالمنا العربي المليء بالفوضى، بأن تتاح لي فرصة كهذه. لذا، غبطت جاك وكيت وجون لوك وسعيد وجين والآخرين، على ما أتيح لهم، ولو كان محض تمثيل. أرفض، كالآخرين، هذا الواقع، ولا أقبل أن أتصالح معه على علاته. أتمنى أن يتاح لنا أن نبدأ من جديد، فلا نتحمل وزر الأسلاف وتبعات الأجداد، وأن نكتب حاضرنا بأيدينا، ونصنع مستقبلنا وفق حاجاتنا ومصالحنا، متحللين من العقد التي نفرضها على أنفسنا بالإكراه، ونسميها عادات وتقاليد، ملتزمين بها، مع علمنا أنها تعطل تقدمنا ونهوضنا.
لعل تمني الضياع، كالذي أصاب أولئك القوم على تلك الجزيرة، يعكس غربة عميقة عن المجتمع والناس وتفاصيل الحياة. وإذا كان هذا الشعور بالغربة عامّاً، ومنتشراً، فهو يوفر تفسيراً لتوتراتٍ كثيرة، تعتور العلاقات في مجتمعاتنا العربية، فهي، إذن، انعكاس لشعور بالهامشية وضعف التأثير، يحسّه كلٌّ منّا، يرى الخطأ ويعرف الصواب ويحلم بتطبيقه، لكنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً.
هكذا إذن: يشعر واحدنا بضعفه وتعطّل طاقاته، فيتهم تلك الشروط التي تقيّدنا بأنها السبب. لذلك، يحلم بـ"حياة جديدة"، ليس فيها شروط مسبقة، ويظن أنه سيكون قادراً ساعتها على فرض الصواب وتجنّب الخطأ، بهدف العيش بسعادة ورضى. LOST ليس كذلك تماماً، فالنفس البشرية تستعيد طبائعها دائماً، وتعود لحسابات المصالح، فتظهر التوترات بين مجموعة البشر، ولا تكون سعادة ولا رضى. وهذا ما يجري في عالمنا دائماً.
مؤكد أن الثائرين في ربيعنا العربي كانوا يحلمون ببدء حياة جديدة، تتحلل من القيود المفروضة وشروطها الثقيلة، وتكتب فصولاً جديدة في حياة كل فرد. لم تنته قصتهم، لكن الظاهر أن محاولتهم بدء حياة جديدة لم يكن في وسعها التغاضي عن أن "النفس البشرية تستعيد طبائعها دائماً"، كما حصل في LOST تماماً.
لعل ثمة طرافة في أن "عيد" مسلسل الضائعين في الجزيرة يتزامن مع عيد العرب والمسلمين، الضائعين أيضاً منذ مئات السنين، بحثاً عن عودتهم إلى التأثير في الحضارة الإنسانية والتقدم، سوى أن هؤلاء المسافرين كانوا ضائعين في الجغرافيا، فيما أننا، نحن العرب المعاصرين، ضائعون في التاريخ. والأكثر أننا ضائعون، في ثورات الربيع العربي ضد الاستبداد، ولم نصل بعد إلى برّ الأمان، ولم نبصر شاطئه.
معتذراً للقارئ الكريم عن جرعة "الأنا" الزائدة التي قد يتضمنها استنادي في الحديث عن حالنا العربي على مسلسل LOST، أقول إنني أحد المولعين بهذا العمل التلفزيوني المبهر، والمسألة لا تتعلق بنجومه، ولا بجودة إخراجه وإنتاجه، بل بقصته، والتجربة المميزة فيها.
قبل سنوات، غيّرتُ محطة التلفزيون، من دون قصد، إلى محطة أخرى، فكانت تبث الحلقة الأولى من الجزء الأول من المسلسل، وجدت نفسي مشدوداً إليه، حتى حافظت على متابعة كل حلقاته، في أجزائه كافة. ومن شدة ولعي بالمسلسل، حافظت على الذهاب دورياً إلى متاجر الأفلام لابتياع كل حلقة جديدة. وخلال فترات توقف LOST بين كل جزء وآخر، كنت أسأل الباعة العارفين عن أخباره، وما إذا أعلن موعد بدء بث جزئه الجديد. وحرصت على قراءة أخباره في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، معتبراً ما يُكتب عنه يخصني.
شدّتني في LOST الفرصة التي أتيحت لكل واحد من ركاب الطائرة، لبدء حياة جديدة، غير التي خبروها في ديارهم. أتيح لهم أن يغادروا الحياة، من دون أن يموتوا، وأن يعيدوا بناء علاقات إنسانية، بعيداً عن المصالح المادية المباشرة.
حلمت دائماً، مثل كثيرين من أقراني، في عالمنا العربي المليء بالفوضى، بأن تتاح لي فرصة كهذه. لذا، غبطت جاك وكيت وجون لوك وسعيد وجين والآخرين، على ما أتيح لهم، ولو كان محض تمثيل. أرفض، كالآخرين، هذا الواقع، ولا أقبل أن أتصالح معه على علاته. أتمنى أن يتاح لنا أن نبدأ من جديد، فلا نتحمل وزر الأسلاف وتبعات الأجداد، وأن نكتب حاضرنا بأيدينا، ونصنع مستقبلنا وفق حاجاتنا ومصالحنا، متحللين من العقد التي نفرضها على أنفسنا بالإكراه، ونسميها عادات وتقاليد، ملتزمين بها، مع علمنا أنها تعطل تقدمنا ونهوضنا.
لعل تمني الضياع، كالذي أصاب أولئك القوم على تلك الجزيرة، يعكس غربة عميقة عن المجتمع والناس وتفاصيل الحياة. وإذا كان هذا الشعور بالغربة عامّاً، ومنتشراً، فهو يوفر تفسيراً لتوتراتٍ كثيرة، تعتور العلاقات في مجتمعاتنا العربية، فهي، إذن، انعكاس لشعور بالهامشية وضعف التأثير، يحسّه كلٌّ منّا، يرى الخطأ ويعرف الصواب ويحلم بتطبيقه، لكنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً.
هكذا إذن: يشعر واحدنا بضعفه وتعطّل طاقاته، فيتهم تلك الشروط التي تقيّدنا بأنها السبب. لذلك، يحلم بـ"حياة جديدة"، ليس فيها شروط مسبقة، ويظن أنه سيكون قادراً ساعتها على فرض الصواب وتجنّب الخطأ، بهدف العيش بسعادة ورضى. LOST ليس كذلك تماماً، فالنفس البشرية تستعيد طبائعها دائماً، وتعود لحسابات المصالح، فتظهر التوترات بين مجموعة البشر، ولا تكون سعادة ولا رضى. وهذا ما يجري في عالمنا دائماً.
مؤكد أن الثائرين في ربيعنا العربي كانوا يحلمون ببدء حياة جديدة، تتحلل من القيود المفروضة وشروطها الثقيلة، وتكتب فصولاً جديدة في حياة كل فرد. لم تنته قصتهم، لكن الظاهر أن محاولتهم بدء حياة جديدة لم يكن في وسعها التغاضي عن أن "النفس البشرية تستعيد طبائعها دائماً"، كما حصل في LOST تماماً.