09 نوفمبر 2024
عيد الخامس من حزيران
صادف حلول عيد الفطر هذا العام في عدد من الدول العربية يوم الثلاثاء، 4 يونيو/ حزيران، بينما حل العيد في دول أخرى في اليوم التالي، الأربعاء 5 يونيو/حزيران. وكان مشهد الانقسام محزنا بين من يأخذ برؤية هلال شوال بالعين المجرّدة ومن يعتمدها مع أخذ الحسابات الفلكية في الاعتبار. ويزداد الأمر غرابة مع تسييسه، حين يجري تقييد تحديد عيد الفطر باعتبارات سياسية، تتعلق بما تقرّره دولٌ أخرى، فتجري موافقتها أو مخالفتها في تحديد يوم العيد، وفقا لاعتباراتٍ لا شأن للهلال بها. وقد باتت هذه "الانقسامات" جزءاً من تقاليد انتظار العيد ومفارقاته، ومادّة للتأمل والتندر على مواقع التواصل، حيث تتدفق التعليقات كالأنهار بشأن هذه التباينات، وكيف أخفقت الهيئات الإسلامية في التوصل إلى اتفاقٍ يضع معايير موحّدة لتحديد مواعيد هذه المناسبات الدينية والاجتماعية المهمّة.
غير أن حلول العيد على عتبة الخامس من يونيو/حزيران، أو في هذا اليوم نفسه، قد استوقف نسبةً أقل من الاهتمام، فأن يحتفل الناس بالعيد في ذكرى حالكةٍ لهزيمة ما زالت نتائجها الكارثية قائمة، فذلك يثير الغرابة والحرج. ويقينا أن كثيرين استوقفتهم هذه المصادفة، لكنهم يشعرون بقلة الحيلة، وبقدرٍ أكبر من الإحباط، ما جعلهم يردّدون مع ذوات أنفسهم: دع هذه المناسبة تمضي، دع عيد الخامس من حزيران يمرّ، فالذكريات المريرة بلا حصر، والحياة كلها بات يختلط فيها الجد مع الهزل، والغث بالسمين، وغدا منطق الأشياء مقلوباً، وقد اعتاد الناس ذلك وألفوه، مع نسبةٍ كبيرةٍ منهم ممن لا يفكرون بغيرهم أبداً، ويعتبرون مثل هذا التفكير الغيري إمارةً على السذاجة، وانشغالا بما لا طائل منه، وينهمكون في التنافس على جني المال، واستعراض مظاهر اليسر، ما إن يتوفر طرفٌ منه، وبما يدلّ على الذكاء والتفوق الفرديين. وقد اعتدنا أن نعزو ذلك إلى الإحباطات المتراكمة، وإلى ضغوط السلطات على الناس، لمنعهم من الانشغال بالشأن العام، تحت تهديد مختلف صنوف التضييق والتنكيل، ودفعهم إلى
الانصراف إلى شؤونهم الخاصة دون سواها، وهو أمرٌ صحيحٌ وثابت، وتزكّيه الوقائع والشواهد هنا وهناك على مدى عقود. غير أن الجزء الآخر من الصورة جرى تغييبه، وهو المتعلق بمسؤولية المجتمعات والنخب، والرموز الاجتماعية والسياسية وسواها، التي أسهمت من جانبها في نشر ثقافة التيئيس، وامتنعت، إلا في حالات قليلة لا يُعتد بها، عن تقديم النموذج ومصدر الإلهام، وشاركت العامة في الإقبال على قطف الثمار المشروعة وغير المشروعة، وتحقيق المكاسب الذاتية على اختلافها، في وقتٍ كانت تُشيع أنها تنذر الوقت والجهد كلهما وجمع الطاقة لتحقيق المصالح العامة وضمان الخير العام.
ولا يقتصر الحال على المرور بالمناسبات المهمة مرور الكرام النيام، بل بات الانشغال يتقلص بمتابعة التطورات والمجريات، ومن كانوا، قبل عقد وعقدين، ينتظرون سماع الأخبار أو يبحثون عنها من مصادرها ومظانّها، ويصغون لها باستغراق وتركيز، ويتناقشون بشأنها مع أسرهم، ثم مع الأصدقاء والزملاء، فقد باتوا ينصرفون عن ذلك كله، ويعكفون على تدبيج التغريدات والبوستات عن حياتهم اليومية، مرفقةً بالصور أو الفيديوهات، أو كتابة تعليقاتٍ هي من قبيل النفثات والخواطر واللواعج والانفعالات اللحظية، عن كل أمور الحياة والكون، كلما تيسّر لهم هذا. ويحدث أن يقع المرء، في هذا الركام، على تأملاتٍ نافذةٍ وملاحظاتٍ ثاقبة، ومواهب كتابية ومواد شيقة، إلى جانب كم أكبر من كلام مرسل يضاهي الكلام الشفهي المبذول، ويقل مستوىً عنه. وبهذا يحقق الواحد منهم ذاته، ويصل صيتُه إلى الأقربين والأبعدين، وكفاه عناء الانشغال بأخبارٍ تميت القلب، ولا تُفسح مجالاً للتدخل وإبداء الآراء واستعراض الذات.
لقد حلت وقفة عيد الفطر، وما تلاه من أيام العيد الثلاثة، وقد سقط خلال هذه الأيام عشرات الضحايا في السودان (الخرطوم) وفي سورية (إدلب وحماة)، ممن حُرموا، هم وذووهم، من الاحتفال بالعيد، بل جرى تعمّد القتلة المعلومين تصعيد الفتك بالأبرياء في هذه الفترة، لكون الإعلام راكداً فيها. فيما كان ما لا يحصى من الأفراد والجماعات من شتّى الشرائح الاجتماعية يتبادلون التهاني المعتادة المكرّرة بالمناسبة على شبكات التواصل بحميّةٍ لا تهدأ، وبآليةٍ رتيبةٍ ونشطةٍ معاً، ويحصدون اللايكات، ويتبرّمون لو تم تذكيرهم بما يقع لأشقاء لهم في الجوار وفي القومية وفي الدين، إذ يرفضون السماح لأحدٍ بأن يفسد عليهم "فرحة "العيد، وكل ما يسعهم
فعله هو تعزية صديق افتراضي بمصابٍ يخصّه.. أما من سقطوا في شوارع الخرطوم، وفي نهر النيل، وفي قرى إدلب وحماة، وفي مخيمات النازحين في العراء، فهؤلاء ليسوا في عداد الأصدقاء الافتراضيين الواجب الانشغال بهم! وتتعلق هذه الملاحظة بما أحدثته شبكة الإنترنت عموماً، ومنصات التواصل خصوصاً، من "ثورة" في المفاهيم، بتعظيمها الفردية والارتفاع بها إلى مصاف الكينونة المستقلة، وإن كانت ذات طبع ذرّي (من ذرّة)، وتضخيمٍ للذات المفردة المنعزلة، وتنمية أوهامها واستيهاماتها، والفصل المتنامي والحثيث عن المحيط الاجتماعي والإنساني، إلا من باب أخذ العلم عرضاً بما يجري هنا وهناك، وقد وجدت هذه "الثورة" أرضية صالحة وبيئة مواتية لها، في التذرّر الاجتماعي، وفي تقهقر الطبقة الوسطى، وفي تفشّي البطالة، وضغط الحاجة للبحث عن وظائف، وفي الفقر الثقافي المدقع، وفي حمّى الاستهلاك، وفي الحواجز التي رفعها الناس بين بعضهم بعضاً وأنسوا بها. ولئن احتُسب الإنترنت وسيلة اتصال وتواصل مثاليةٍ في ظروف الاحتجاجات العامة، واشتداد النازع إلى التغيير، فإن هذه الوسيلة تتحوّل إلى وسيلة استنقاع وهمود تام في ظروف الركود العام، وهي الظروف الغالبة.
غير أن حلول العيد على عتبة الخامس من يونيو/حزيران، أو في هذا اليوم نفسه، قد استوقف نسبةً أقل من الاهتمام، فأن يحتفل الناس بالعيد في ذكرى حالكةٍ لهزيمة ما زالت نتائجها الكارثية قائمة، فذلك يثير الغرابة والحرج. ويقينا أن كثيرين استوقفتهم هذه المصادفة، لكنهم يشعرون بقلة الحيلة، وبقدرٍ أكبر من الإحباط، ما جعلهم يردّدون مع ذوات أنفسهم: دع هذه المناسبة تمضي، دع عيد الخامس من حزيران يمرّ، فالذكريات المريرة بلا حصر، والحياة كلها بات يختلط فيها الجد مع الهزل، والغث بالسمين، وغدا منطق الأشياء مقلوباً، وقد اعتاد الناس ذلك وألفوه، مع نسبةٍ كبيرةٍ منهم ممن لا يفكرون بغيرهم أبداً، ويعتبرون مثل هذا التفكير الغيري إمارةً على السذاجة، وانشغالا بما لا طائل منه، وينهمكون في التنافس على جني المال، واستعراض مظاهر اليسر، ما إن يتوفر طرفٌ منه، وبما يدلّ على الذكاء والتفوق الفرديين. وقد اعتدنا أن نعزو ذلك إلى الإحباطات المتراكمة، وإلى ضغوط السلطات على الناس، لمنعهم من الانشغال بالشأن العام، تحت تهديد مختلف صنوف التضييق والتنكيل، ودفعهم إلى
ولا يقتصر الحال على المرور بالمناسبات المهمة مرور الكرام النيام، بل بات الانشغال يتقلص بمتابعة التطورات والمجريات، ومن كانوا، قبل عقد وعقدين، ينتظرون سماع الأخبار أو يبحثون عنها من مصادرها ومظانّها، ويصغون لها باستغراق وتركيز، ويتناقشون بشأنها مع أسرهم، ثم مع الأصدقاء والزملاء، فقد باتوا ينصرفون عن ذلك كله، ويعكفون على تدبيج التغريدات والبوستات عن حياتهم اليومية، مرفقةً بالصور أو الفيديوهات، أو كتابة تعليقاتٍ هي من قبيل النفثات والخواطر واللواعج والانفعالات اللحظية، عن كل أمور الحياة والكون، كلما تيسّر لهم هذا. ويحدث أن يقع المرء، في هذا الركام، على تأملاتٍ نافذةٍ وملاحظاتٍ ثاقبة، ومواهب كتابية ومواد شيقة، إلى جانب كم أكبر من كلام مرسل يضاهي الكلام الشفهي المبذول، ويقل مستوىً عنه. وبهذا يحقق الواحد منهم ذاته، ويصل صيتُه إلى الأقربين والأبعدين، وكفاه عناء الانشغال بأخبارٍ تميت القلب، ولا تُفسح مجالاً للتدخل وإبداء الآراء واستعراض الذات.
لقد حلت وقفة عيد الفطر، وما تلاه من أيام العيد الثلاثة، وقد سقط خلال هذه الأيام عشرات الضحايا في السودان (الخرطوم) وفي سورية (إدلب وحماة)، ممن حُرموا، هم وذووهم، من الاحتفال بالعيد، بل جرى تعمّد القتلة المعلومين تصعيد الفتك بالأبرياء في هذه الفترة، لكون الإعلام راكداً فيها. فيما كان ما لا يحصى من الأفراد والجماعات من شتّى الشرائح الاجتماعية يتبادلون التهاني المعتادة المكرّرة بالمناسبة على شبكات التواصل بحميّةٍ لا تهدأ، وبآليةٍ رتيبةٍ ونشطةٍ معاً، ويحصدون اللايكات، ويتبرّمون لو تم تذكيرهم بما يقع لأشقاء لهم في الجوار وفي القومية وفي الدين، إذ يرفضون السماح لأحدٍ بأن يفسد عليهم "فرحة "العيد، وكل ما يسعهم