عن عيدٍ يعود بالحال نفسه
هل يعقل أن بيت الشعر الذي قاله المتنبي، قبل أكثر من ألف عام، ما يزال حيّاً يملأ فراغاً في النفس العربية لمقولات الرثاء، وللتعبير عن التعجب من هول الأحداث وكوارث القدر التي يعود معها العيد؟
"عيد بأية حال عدت يا عيد". .. أية أمة هذه، لا تتغير مساراتها على مرّ القرون. لا تتغير بكائياتها التي تحلق في سماءات شعوبها، مثل غراب ينعق فوق رؤوس المجتمعات والأفراد الذين يولدون ليموتوا، لا ليحيوا، كما يليق بالحياة أن تعاش!
منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأنا أرقب استخدام هذا البيت الشعري البليغ في العناوين الصحافية والمقالات المحبطة، من واقع يسير نحو العفونة، من دون أن يلوح أن أحداً يحاول أن يوقفه. ومؤكد أن آخرين، قبلنا، استخدموا المقطع الشعري، بعد نكبة فلسطين عام 1948، ثم بعد 1967 في "وكسة حزيران" التي نكّست رؤوس شعوب المنطقة وحكامها أمام التهام مزيد من أراضي فلسطين وجوارها العربي، وتشريد سكانٍ آخرين من شعوبها (سورية والأردن والتحق بهم فلسطينيون إضافيون) باتجاه شتات الداخل والخارج، مخيّمات وبلدان لجوء وهجرات ترامت على مساحة الخريطة الواسعة.
لا بد أن السابقين على كل هؤلاء، منذ قرون عربية، تذكّروا مطلع القصيدة الشهير بعد اجتياح المغول والصليبيين حواضر المنطقة بين بغداد والشام، وتدمير معالمها الحضارية وذبح كثيرين من أهلها، فكانوا دواعش ذلك الزمان الذين بشروا بمن بعدهم، من المهووسين بالمشانق. مع ضرورة الانتباه إلى
أن الصور المعنية لا تخصّ تنظيم الدولة نفسه الآن، بل تشمل من قاد الأمة تحت مسمّى "أنظمة" و"حكومات" و"نخب" إلى هذا الاحتلال.
"بأية حال عدت يا عيد".. لا بد أنه تردّد على ألسنة نخب وعوام، في ظل صراعات حكام المنطقة من قادة ومماليك تسلطوا، وجواري قصورٍ وغلمان ابتكروا الدسائس للأسياد.
سنة بعد أخرى، يعيش المقطع الشعري الذي صار ترياقا سريع المفعول، قبل أن يسرع في التلاشي، وعوناً لنفوس سكان المنطقة أحفاد المتنبي في القرن الحادي والعشرين، حتى بات وصف العيد ومجيئه غير السعيد يحتلّ حسابات الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن عديدين منهم بالكاد يعرف عن الشعر، أو عن المتنبي شيئاً.
مفتتح البيت الشعري الذي ذهب مثلاً عربياً، "عيد بأية حال"، قاله المتنبي تعبيراً عن وجع وإحباط شخصي، عندما عاد من مصر باتجاه بلاد الشام، ولم يحصل على فرصةٍ لائقة في السلطة، تطلع إليها عند كافور الإخشيدي (تساوي المكانة الاجتماعية التي يحلم بها أفراد هذا الزمان)، وكأنه لم يقنع بالشعر الذي كانت قريحته تجود به بموهبة عجيبةٍ، تركت بصمتها على ذاكرة العرب وثقافتهم، شعر عاش بعد رحيله، ولا يزال حيّا، كأنه قيل اليوم، لأن العرب لم يتغيّروا، ولا غيّروا مصائرهم.
لكن، المتنبي، كما هم ورثة جيناته الثقافية، لم يجد في تفوقه الشعري قناعةً تكفي طاقة روحه المتباهية، الجوعى أبدا للمجد والثناء. توجّع من خيبة شخصية، وقال قصيدة تبكي انهيار عالمه، فأين حجم وجعه من مكان خذله في مصر ولم يكرّمه التكريم الذي حصل عليه في حلب، من أميرها سيف الدولة، من وجع طازج لأمةٍ فاخر بها وتحمّس لها، عندما ساد فيها حكم الأجانب من بغداد العباسية الواهنة إلى مصر التي قادها المماليك. ولو عاد المتنبي، اليوم، وعاش بعض الوقت في مصر، ثم انطلق في رحلته، إياها، باتجاه بلاد الشام والعراق، فأي شعر كانت نفسه ستلهج به، بل أي عويل كان سيئن من حنجرته، وهو يمرّ على بلاد مقطعة الأوصال، شعوبها أشلاء، "ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان".
هذه البلاد لم تتغير كثيراً، ولا تزال تمزقها المؤامرات والسطو المسلح على ثقافتها وطوائفها، ولم تنجب شاعراً آخر بفحولة أدبية، تطلق مقطعاً شعرياً، يلهم أبناء عصره أمام أوجاعهم في هذه اللحظات، بدل الاستشهاد بمقولة شاعر عاش قبل أكثر من ألف عام؟
إنه الثابت في عقل لا يتحوّل. لذا تأتي الأعياد وتروح بالحال نفسه.