عن روايةٍ تحاكي حاضرنا

10 مايو 2017
+ الخط -
قد لا يكون تأمل مارتين في واقعة مقتل أمه على يد الكاثوليك، في حروب الأعوام الثلاثين في أوروبا، الدافع الوحيد لجعله يفكّر في معنى الموت. وبالتالي في البحث عن معنى "السعادة" التي يمكن أن تتحقق في الحياة، وعن حقيقة الحياة نفسها، لكن الواقعة حفّزته على أن يتجاوز تردّده، وأن يُقدم على خطوةٍ ما، ولم يكن أمامه من حلٍّ سوى أن يأخذ بنصيحة صديقه العجوز هانس في أن يشدّ الرحال إلى الشرق، موطن الروحانيات والأرض البكر للسعادة، كما وصفها له، هناك عليه أن يبحث عن كتاب "الإفادة في إكسير السعادة" الذي سوف يعطيه الأجوبة الشافية عن كل تساؤلاته، لكن شيئا من التردّد بقي معه، وهو يسمع من هانس أن أحد ملوك أوروبا جرّد حملةً عسكريةً على شواطئ المشرق، لجلب الكتاب المطلوب، لكن العسكر فشلوا في الحصول على الكتاب. كيف إذن لرجلٍ مسكين مثله أن يحقق ما عجز عنه العسكر، طمأنه هانس: "امتلاك السعادة لا يتم عن طريق العسكر، العسكر دائما يدمّرون الطريق إلى السعادة"!
سمع مارتين مواعظ الكنيسة، لكنه لم يكن ليقتنع بالأجوبة الجاهزة التي يقدّمها هذا المذهب أو ذاك، ولا هذا التيار أو ذاك، وقد عرف تماما أن كل فريقٍ يضع الحقيقة في صفه، ويصنف الآخر المختلف خصماً له، صراعات الأديرة والكنائس في ما بينها كشفت له ذلك، وصديقه الفيلسوف هانس قال له إن كل واحدٍ يريد افتراس الآخر، و"الشرق" وحده هو الذي يقدّم له الحقيقة التي يبحث عنها، "نحن هنا في أوروبا نحيا في مستنقع عبادة المال، أما الشرق فما زالت الروحانية فيه بكرا".
وقبل أن يحقق مارتين حلمه بالرحيل إلى الشرق، أخذه هانس معه في جولةٍ قدّم له فيها صرّةً من المال، وقبضة حكايات: "ضعفت سلطة الكنيسة. لكن، نشأت سلطة أخرى أسوأ منها، هي سلطة الذهب. والذهب سوف يقضي على روحانية هذه الأوطان.. ستون عاما من الحروب وآلاف الشباب ذهبوا إلى ميادين القتال، ولم يعودوا.. آلاف النساء أصبحن ثكالى وأرامل. مئات الآلاف من الأطفال يُتّموا. الفتيات اغتصبن. واحترقت أكباد الأمهات. وانطفأت القناديل. الملوك والبارونات والقادة العسكريون دفعوا آلاف الدنانير، لينقشوا صورهم الملونة، ويعلقونها على جدران قصورهم الشاهقة، ولا يتناولون طعامهم إلا بملاعق الذهب، فيما يموت الآلاف بسبب الأوبئة والمجاعات".
رحل مارتين إلى الشرق حيث أراد، تنقل بين طنجة والإسكندرية وعكا ودمشق وحلب، وتعلم لغاتها، وبحث في خاناتها ومكتباتها ومساجدها عن الكتاب، لكنه كمن يبحث عن قطرة ماء تسرّبت إلى مياه البحر، لكنه كسب الكثير من الخبرة، وتعلم فنون التجارة والبيع والشراء. عاش مع المسلمين، وتعرّف إلى عاداتهم وتقاليدهم، واختبر عشرات الناس من أديانٍ ومذاهب وأعراق مختلفة، وأحبّ وعشق، وسمع حكاياتٍ وأسراراً، لكن أبرز ما حصل عليه هو الحكمة، فقد أدرك أن الكتاب الذي أنفق تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام في البحث عنه ليس سوى خدعة، وأدرك مقولة هانس إليه إن التفكير بالموت أصعب من الموت نفسه، وإن السعادة ليست سوى سراب، وليس ثمّة وجه واحد للحقيقة، وهي "مثل حبة الكستناء لا يمكن معرفة مذاقها من دون أن تنزع قشرتها أولا"، وإن الشرق ليس سوى صورة أخرى لصراعات المذاهب والعقائد، وأن الحروب لا تنتج إلا الموت.
تحاكي رواية "مارتين السعيد" حاضرنا العربي، وتستدعي إلى الذهن كل ما نشهده في زماننا من حروبٍ، وصراعاتٍ، وتحولاتٍ، وتعكس ما نعيشه في واقعنا الماثل من تعصّبٍ لعرقٍ أو مذهبٍ أو ديانةٍ قد يدفع لكل ما هو وحشي وشرير، وبطلها مارتين ليس عربياً ولا مسلماً، بل ألماني اختاره كاتبها الذي عاش في الغرب عشر سنين، وأطلق على لسانه أسئلة الدين والحياة الموت، والحقائق التي عادة ما نتصوّر أنها يقينية. كان يريد، كما قال "تفجير الوعي، وتحريك الراكد من الثوابت، والتساؤل حول امتلاك الحقيقة، وادّعاء كل مذهب بأنه سادن الحقيقة". واللافت أن مترجمها إلى العربية، السوري جان دوست، هو نفسه مؤلفها في الأصل بلغته الكردية، ويسجل له نشاطه في المجال الإنساني، وعمله في إغاثة النازحين والمهجرين الذين شرّدتهم الحرب السورية، ودعوته إلى "بناء دولة مدنية في سورية، تحترم الإنسان لإنسانيته، لا لعرقه أو طائفته أو دينه".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"