عن ذاكرة العلاقات التونسية التركية

01 يناير 2020
+ الخط -
فجّرت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تونس يوم 26 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) واجتماعه مع الرئيس قيس سعيد، والمباحثات التي دارت بينهما بشأن الأحداث في ليبيا، جدلا سياسيا وشعبيا واسعا في تونس، شغل الأحزاب والفضاءات العامة ومواقع التواصل الاجتماعي، وظهر انقسام واضح في الرأي العام التونسي بشأن سبب الزيارة وأبعادها، وأساسا فيما يتعلق بمعالم الدبلوماسية التونسية إزاء الأزمة الليبية، وتحديدا الاتفاقية الموقعة بين أنقرة وحكومة الوفاق في طرابلس، وتداعياتها السياسية والعسكرية والأمنية على المنطقة.
في هذا السياق، تحضر محطات تاريخية مهمة في العلاقات التونسية التركية التي وصفها المدير العام للأرشيف الوطني التونسي، المؤرخ الهادي جلاب، بأنها علاقات تتسم "على الرغم من البعد الجغرافي والجفاء الذي انتابها أحياناً، بصور من التلاقي المتين والروابط الموثوقة وبنوع من الطرافة النادرة". وفي حفر تاريخي لرصد تحولات هذه العلاقات، يستحضر المخيال الجمعي الشعبي التونسي أن تونس إيالة أصبحت تابعة للسلطة العثمانية سنة 1574، ليستمر ذلك بتأسيس حكم وراثي سنة 1705 على يد حسين بن علي التركي، استمر إلى 1957 تاريخ الإعلان عن الجمهورية التونسية وإلغاء النظام الملكي (نظام البايات) التركي 
في تونس.
ويذكر المؤرخون أن نزوعاً لدى التونسيين إلى الاستقلالية عن الباب العالي في إسطنبول قد برزت مؤشّراته طوال هذه الفترة، ومن ذلك أن العلم التونسي الحالي، وإن كان يشبه الراية العثمانية، إلا أنه لا يتماهى تماماً معها، إذ أخذ ملامحه النهائية الحالية مع حسين باي الثاني (1824 – 1837)، كما ظلت تونس تحت الحكم التركي حريصة على استعمال اللغة العربية والإحجام عن اللغة "العصمانالية"، فالوثائق التونسية التي جمعها وحفظها الوزير الأكبر خير الدين باشا، مؤسس خزينة حفظ مكاتيب الدولة سنة 1874، كتبت في أغلبيتها باللغة العربية، وهي الوثائق التي يحتفظ بها الأرشيف الوطني التونسي. وتبين هذه الوثائق أن التراسل مع الباب العالي أصبح مع أحمد باي حاكم تونس منذ سنة 1838 يستعمل العربية، وهذا الباي ضعفت معه العلاقة مع الدولة العثمانية بشكل ملحوظ. إذ أصبحت تونس في عهده تتعامل مع الخارج دولة مستقلة. وقد رفض هذا الباي العمل بالإصلاحات التي أقرّتها إسطنبول سنة 1839. وتذكر الوثائق أن أحمد باي تعلل في هذا المجال "باختلاف الطباع والظروف"، بل أرسل وزيره للقلم، أحمد بن أبي الضياف، مبلغا هذا الرفض وشرحه للباب العالي. وقد استمرّ هذا النزوع للاستقلالية تأسيسا لما اعتبره المؤرّخون "ذاتية تونسية" بعد أحمد باي، إذ شهدت تونس منذ 1860 إصلاحاتٍ عديدةً، تميزت بتأسيس الوزارة الكبرى ووزارة الحرب والبحر ومجلس لتدقيق الحسابات ووزارة للداخلية، وكذلك ظهور أول برلمان تونسي أطلق عليه "المجلس الأكبر" شفع بإصدار دستور سنة 1861، يفصل بين السلطات الثلاث، ويحدّد 
مهامها (تركيا أصدرت دستورا سنة 1876)، كما تم إنشاء مطبعة رسمية ومجلة رسمية تسمى "الرائد التونسي". وقد سبقت تونس الإمبراطورية العثمانية في إلغاء العبودية سنة 1846، في حين تم ذلك في تركيا سنة 1847.
وشاركت تونس في حرب القرم (دارت بين سنتي 1853 و1856) مساندة للدولة العثمانية ضد روسيا بنحو سبعة آلاف رجل، مات أغلبهم، ليؤسس الباقون منهم قريةً في أقصى الشمال التركي، تحمل اسم تونس، ما تزال ترفع علمها إلى جانب العلم التركي. كما أن تركيا احتضنت أضرحة ثلاثة قادة تونسيين بارزين، هنيبعل الذي دفن فيها سنة 183 قبل الميلاد، والوزير المصلح خير الدين التونسي الذي تولى منصب الصدر الأعظم للدولة العثمانية (1878 – 1879)، والزعيم علي باش حانبة، مؤسس حركة الشباب التونسي، الذي استقر في إسطنبول بعد أن نفاه الاستعمار الفرنسي سنة 1912. وكانت أول زيارة يقوم بها الزعيم الحبيب بورقيبة إلى تركيا سنة 1965 في ظروف الأزمة القبرصية والنزاع اليوناني التركي، بصفته وسيطا بينهما، ولكنه امتنع عن اتخاذ موقف منحاز لطرف دون آخر وتشبث بالحياد، على الرغم من تأثره الشديد بالنهج الأتاتوركي، وحبّه المعلن لكمال أتاتورك. وقد رأى في وساطته حلا يرمي إلى إيجاد مخرج للقضية القبرصية، على أن تحافظ تونس على علاقات الصداقة مع كل من اليونان وتركيا، داعيا الأخيرة إلى تفهم الموقف العربي في هذه المسألة، بالعودة الى موقف تركيا من القضية الفلسطينية، فقد كانت تركيا الدولة الإسلامية الوحيدة التي اعترفت بإسرائيل سنة 1949.
وفيما يتعلق بالقضية التونسية ومسار الاستقلال، اقترحت باكستان في 31 مارس/ آذار 1952 إدراج القضية التونسية في جدول أعمال مجلس الأمن، وهو اقتراح رفضته فرنسا 
وبريطانيا، وامتنعت تركيا والولايات المتحدة واليونان وهولندا عن التصويت، ما فتح عهدا لبرود العلاقات التونسية التركية استمر إلى سنة 1965، حيث شهدت هذه العلاقات عهدا جديدا بزيارة الرئيس بورقيبة تركيا خلال هذه السنة، وهي زيارة ساهمت في إذابة الجليد بين تركيا والعرب، وأعقبتها زيارة الرئيس التركي جودت سوناي تونس في 1966، تواصلت معها تباشير جديدة لعهد جديد، ليعود بورقيبة إلى تركيا في زيارة خاصة سنة 1968. ويذكر المؤرخ الهادي جلاب أن بورقيبة زار في أثنائها المكان المرجّح أن يكون دفن فيه هنيبعل وطالب بنقل رفاته الى تونس، ولكن الأتراك لم يوافقوا. وفيما يخص رفات الزعيم التونسي علي باش حانبة، فقد أكرمه بورقيبة، وتم جلب رفاته سنة 1962.
وفي اللاوعي التونسي، يمكن اعتبار تلك الوقائع التاريخية التي اتسمت بها العلاقات التونسية التركية أحد أسباب هذا الجدل الذي تقبل به التونسيون زيارة أردوغان. تضاف إلى ذلك السياقات الجيوسياسية التي حفّت بالزيارة، وقد تكون سببا لها، فقد طغى الجانب السياسي البراغماتي في علاقة تركيا بالأزمة الليبية على ما وعد به الرئيس التركي التونسيين من فتح لمجال اقتصادي تجاري رحب، قد يساعد تونس على الخروج من ظروفها الاقتصادية الصعبة. وهو ما لم يقنع فئاتٍ واسعةً من النخب التونسية التي ظلت متوجّسةً من الدور التركي في المنطقة، على الرغم من رفضها الحل العسكري وجرائم الحرب التي يرتكبها اللواء المتمرّد، خليفة حفتر، على الأراضي الليبية، وتهديداته المستمرّة للجارتين تونس والجزائر.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي