05 نوفمبر 2024
عن الكهرباء والماء: يبست عروق السوري
لكل مشكلة حلّ. هكذا يمضي بنا العمر، في بلد يتهاوى فيه كل شيء، طالما هنالك من يسهر لأجل صياغة حياتنا، مبتدعاً أشكالاً شتى من السلع التي تضمن بقاءنا في ذلك البرزخ الراسخ بين الحياة والموت، سلع وصفقات وتجارة تتحالف مع الموت، بادعاء ضمان الحياة.
في سورية، ننتظر الكهرباء، مع أنها صارت منجزاً حضارياً قديماً، وصارت من بديهيات الحياة، لكننا نفتقدها وننتظرها، منشغلين عن أحلامنا وطموحاتنا، عملاً بالقاعدة الماكرة: للضرورة أحكام. ولهذه الضرورة أحكام متعددة ومتنوعة، تبدأ بأهم شرط فيها، وهو أن الوطن في حرب، والمؤامرة عليه أكبر من طاقته، فبأي ضمير ننشغل عن نداء الواجب، ونطالب بالكماليات؟ أما الحكم الآخر فهو أن الحلم بلحظة وصول التيار الكهربائي، بحد ذاته، سيد الأحلام، ومن بعده فليكن الطوفان.
تصل ساعات التقنين، أحياناً، إلى خمس ساعات، وربما أكثر، في مقابل وصْلِ التيار ساعة، أو ساعتين. وعندما تتغير المعادلة، وتتحفنا الكهرباء بحضورها ثلاث ساعات، فيما لو حصل ذلك، فهذا ترف يربكنا، مثلما يربكنا أن تصل إلينا في غير موعدها، فنضطرب ونضيع ونهدر الوقت في المفاضلة وترتيب الأولويات.
لكن، وعلى الرغم من حجم المؤامرة، ومن الواقع المأساوي الذي يعيش في خضمّه نصف الشعب السوري، بعدما أصبح نصفه الآخر موزعاً بين قتيل ومفقود ومهجّر ولاجئ، فإن حلولاً تُطرح بين يديه، كي "يعشق حياته" عملاً بتوجيهات لوحات الإعلانات الطرقية "الحكيمة" التي بقيت صامدة في وجه المؤامرة الكونية "عِيشْها غير". فمع بداية الأزمة الحياتية التي كشرت عن أنيابها، في العام الثاني من الحراك الشعبي، وبعد أن فرضت الحرب نفسها، والدم السوري سُفح فوق تراب الوطن، بدأت الحلول تتسلل إلى حياتنا، معروضة في الأسواق، خيارات ملزمة لمن استطاع إليها سبيلا، والسبيل، هنا، أن يكون مع المواطن ثمن الحل السحري، يدفعه لمن يعرف كيف يداعب مصباح علاء الدين، أو كيف يُطلق المارد من قمقمه. المهم أن تدفع، حتى لو بعت سرير طفلك، وجعلته ينام على البلاط، فهذا سلوك عملي لمن يعرف المكر والاحتيال على الحياة، إذ ما الضير في أن ينام طفلك على البلاط في سبيل أن يحيا، فلربما القادم أجمل، ويحمل معه المستقبل المأمول؟
كان البديل الأول المولدات التي تعمل على المحروقات، لإنتاج الطاقة الكهربائية، هرع الناس إليها، بعدما صار سعر شموع الإنارة أو قناديل الكاز خيالياً، وتبين أن الحياة في القرن الواحد والعشرين تتطلب أكثر من الإنارة. غزت المولدات الأسواق بطاقات إنتاجية مختلفة، منها منزلي ومنها صناعي. أما في المدن الكبيرة المنكوبة، مثل حلب التي لم يرحمها أي طرف من أطراف النزاع، فعتموا حياتها، وعطّشوها بدعوى الذود عنها، فقد شاع تدبير آخر. هناك من يشتري مولدة كبيرة، ويبيع "الأمبيرات"، لكل بحسب حاجته، ولكل حاجة سعر، ومثلما كان لحلب الريادة في التجارب تاريخياً، شاعت هذه التجربة، في أكثر من مدينة سورية، مثل جبلة، المدينة الساحلية التابعة لمحافظة اللاذقية، بينما اللاذقية المزدحمة بسكانها وإخوتهم الفارين من غضب الحرب وجبروتها، بقيت كما هي منذ عقود "المدينة المصابة باللعنة".
دخلنا في أزمة المحروقات، أزمة لعينة ضاغطة، فقفزت البدائل إلى الأسواق: بطاريات بقدرات متفاوتة، تُشحن في الأوقات التي يصل فيها التيار الكهربائي، وتشغّل الأساسيات في البيت، وهذه الأساسيات هي، غالباً، الإنارة وشاشة التلفزيون التي هي أهم من الخبز، فبدونها كيف سيتغذى هذا الشعب بالتضليل الإعلامي؟ ثم جهاز الإنترنت، لأن "فيسبوك" وصفحات التواصل هي الملاذ، في ظل الخواء الروحي الذي يعاني منه الناس.
ازداد التقنين وطأة، ولم تعد الساعة التي يصل فيها التيار تكفي لشحن البطاريات، طال أمد التقنين، وصار الناس يهمسون فيما بينهم: هناك صفقة على الطريق. ثم بدأت بواكير البديل الجديد: بطاريات تشحن بالطاقة الشمسية، أو بالضوء. اختراع مذهل.
والمذهل أكثر البدائل الأخرى التي تراعي الفروق الطبقية التي تزداد فجوراً في ظل الحرب، وتتشكل طبقات، بدأت ملامحها ومنظومة قيمها اللاأخلاقية تظهر وتنمو، مثل الفطور والأشنيات الضارة على وجه المجتمع، فمن لا يستطيع شراء بطارية، أو لا يتحمل تكلفة وقود المولدة، هناك أجهزة صغيرة تشحن بوقت قصير، تحلّ مشكلة أجهزة الخليوي، وهناك مراوح ببطارية، يمكن شحنها واستغلالها في هذا الصيف الحار لتلطيف الجو. هناك أبيال صغيرة، تشحن وتعطي إنارة مقبولة للمكان الذي يجلس فيه المرء مع همومه واغترابه. بدائل وبدائل تُطرح في الأسواق، تجار الأزمات يفكرون عن الشعب، تجار الأزمات يحملون هموم الشعب، والشعب ما زال على قيد العيش، مصاباً ببلادة وقائية، تحمي أجهزته الحيوية، في مقابل تسطيح أدمغته توفيراً للطاقة، فالتفكير متطلب يحرق ويهدر الكثير منها، بينما الوطن في حرب يقاوم ويمانع ضد تتار العصر وبرابرتهم المنهمرين من مرتفعات الجريمة المقدسة، مثل سيول سوداء تهدر باسم الله، وترفع سكاكينها المباركة.
أما المياه فلها حكاية أخرى، الماء الذي قال عنه الله في قرآنه: وجعلنا من الماء كل شيء حي. سورية أرض العطاش، على الرغم من أن سدودها كانت مهددة بالانهيار، بسبب الأمطار التي فاقت معدلاتها وقدرة السدود على الاستيعاب في موسم الإمطار المنقضي، لكنها عطشى، ولهيب الصيف والبارود يبخّر ماء الأرض منها. ينتظر السوري في الأماكن الهادئة جريان الماء في الصنابير، مثل انتظاره أوكسجين الحياة، والماء لا يأتي إلا مع الكهرباء، فيما لو أتى، بينما حلب الظمآنة تشتري غالونات الماء من الصهاريج، مثلما تشتري الأمبيرات من "مولّدات الأزمة"، ولم يوفر المسلحون هذا السلاح في محاربة النظام، بحجة دعم الثورة والثوار، فعطّشوا حلب، وراحت تستغيث، بينما القذائف والبراميل تكتم صراخها، وتجار الماء يتجولون بهذا الكنز، من دون أن يرف لهم جفن.
يبست عروق السوري، وأظلمت نفسه وخوَت روحه، بينما الحرب تزداد ازهاراً، وتجارة الحرب تزداد ازدهاراً. فمن سيخترع سورية مرة أخرى؟
في سورية، ننتظر الكهرباء، مع أنها صارت منجزاً حضارياً قديماً، وصارت من بديهيات الحياة، لكننا نفتقدها وننتظرها، منشغلين عن أحلامنا وطموحاتنا، عملاً بالقاعدة الماكرة: للضرورة أحكام. ولهذه الضرورة أحكام متعددة ومتنوعة، تبدأ بأهم شرط فيها، وهو أن الوطن في حرب، والمؤامرة عليه أكبر من طاقته، فبأي ضمير ننشغل عن نداء الواجب، ونطالب بالكماليات؟ أما الحكم الآخر فهو أن الحلم بلحظة وصول التيار الكهربائي، بحد ذاته، سيد الأحلام، ومن بعده فليكن الطوفان.
تصل ساعات التقنين، أحياناً، إلى خمس ساعات، وربما أكثر، في مقابل وصْلِ التيار ساعة، أو ساعتين. وعندما تتغير المعادلة، وتتحفنا الكهرباء بحضورها ثلاث ساعات، فيما لو حصل ذلك، فهذا ترف يربكنا، مثلما يربكنا أن تصل إلينا في غير موعدها، فنضطرب ونضيع ونهدر الوقت في المفاضلة وترتيب الأولويات.
لكن، وعلى الرغم من حجم المؤامرة، ومن الواقع المأساوي الذي يعيش في خضمّه نصف الشعب السوري، بعدما أصبح نصفه الآخر موزعاً بين قتيل ومفقود ومهجّر ولاجئ، فإن حلولاً تُطرح بين يديه، كي "يعشق حياته" عملاً بتوجيهات لوحات الإعلانات الطرقية "الحكيمة" التي بقيت صامدة في وجه المؤامرة الكونية "عِيشْها غير". فمع بداية الأزمة الحياتية التي كشرت عن أنيابها، في العام الثاني من الحراك الشعبي، وبعد أن فرضت الحرب نفسها، والدم السوري سُفح فوق تراب الوطن، بدأت الحلول تتسلل إلى حياتنا، معروضة في الأسواق، خيارات ملزمة لمن استطاع إليها سبيلا، والسبيل، هنا، أن يكون مع المواطن ثمن الحل السحري، يدفعه لمن يعرف كيف يداعب مصباح علاء الدين، أو كيف يُطلق المارد من قمقمه. المهم أن تدفع، حتى لو بعت سرير طفلك، وجعلته ينام على البلاط، فهذا سلوك عملي لمن يعرف المكر والاحتيال على الحياة، إذ ما الضير في أن ينام طفلك على البلاط في سبيل أن يحيا، فلربما القادم أجمل، ويحمل معه المستقبل المأمول؟
كان البديل الأول المولدات التي تعمل على المحروقات، لإنتاج الطاقة الكهربائية، هرع الناس إليها، بعدما صار سعر شموع الإنارة أو قناديل الكاز خيالياً، وتبين أن الحياة في القرن الواحد والعشرين تتطلب أكثر من الإنارة. غزت المولدات الأسواق بطاقات إنتاجية مختلفة، منها منزلي ومنها صناعي. أما في المدن الكبيرة المنكوبة، مثل حلب التي لم يرحمها أي طرف من أطراف النزاع، فعتموا حياتها، وعطّشوها بدعوى الذود عنها، فقد شاع تدبير آخر. هناك من يشتري مولدة كبيرة، ويبيع "الأمبيرات"، لكل بحسب حاجته، ولكل حاجة سعر، ومثلما كان لحلب الريادة في التجارب تاريخياً، شاعت هذه التجربة، في أكثر من مدينة سورية، مثل جبلة، المدينة الساحلية التابعة لمحافظة اللاذقية، بينما اللاذقية المزدحمة بسكانها وإخوتهم الفارين من غضب الحرب وجبروتها، بقيت كما هي منذ عقود "المدينة المصابة باللعنة".
دخلنا في أزمة المحروقات، أزمة لعينة ضاغطة، فقفزت البدائل إلى الأسواق: بطاريات بقدرات متفاوتة، تُشحن في الأوقات التي يصل فيها التيار الكهربائي، وتشغّل الأساسيات في البيت، وهذه الأساسيات هي، غالباً، الإنارة وشاشة التلفزيون التي هي أهم من الخبز، فبدونها كيف سيتغذى هذا الشعب بالتضليل الإعلامي؟ ثم جهاز الإنترنت، لأن "فيسبوك" وصفحات التواصل هي الملاذ، في ظل الخواء الروحي الذي يعاني منه الناس.
ازداد التقنين وطأة، ولم تعد الساعة التي يصل فيها التيار تكفي لشحن البطاريات، طال أمد التقنين، وصار الناس يهمسون فيما بينهم: هناك صفقة على الطريق. ثم بدأت بواكير البديل الجديد: بطاريات تشحن بالطاقة الشمسية، أو بالضوء. اختراع مذهل.
والمذهل أكثر البدائل الأخرى التي تراعي الفروق الطبقية التي تزداد فجوراً في ظل الحرب، وتتشكل طبقات، بدأت ملامحها ومنظومة قيمها اللاأخلاقية تظهر وتنمو، مثل الفطور والأشنيات الضارة على وجه المجتمع، فمن لا يستطيع شراء بطارية، أو لا يتحمل تكلفة وقود المولدة، هناك أجهزة صغيرة تشحن بوقت قصير، تحلّ مشكلة أجهزة الخليوي، وهناك مراوح ببطارية، يمكن شحنها واستغلالها في هذا الصيف الحار لتلطيف الجو. هناك أبيال صغيرة، تشحن وتعطي إنارة مقبولة للمكان الذي يجلس فيه المرء مع همومه واغترابه. بدائل وبدائل تُطرح في الأسواق، تجار الأزمات يفكرون عن الشعب، تجار الأزمات يحملون هموم الشعب، والشعب ما زال على قيد العيش، مصاباً ببلادة وقائية، تحمي أجهزته الحيوية، في مقابل تسطيح أدمغته توفيراً للطاقة، فالتفكير متطلب يحرق ويهدر الكثير منها، بينما الوطن في حرب يقاوم ويمانع ضد تتار العصر وبرابرتهم المنهمرين من مرتفعات الجريمة المقدسة، مثل سيول سوداء تهدر باسم الله، وترفع سكاكينها المباركة.
أما المياه فلها حكاية أخرى، الماء الذي قال عنه الله في قرآنه: وجعلنا من الماء كل شيء حي. سورية أرض العطاش، على الرغم من أن سدودها كانت مهددة بالانهيار، بسبب الأمطار التي فاقت معدلاتها وقدرة السدود على الاستيعاب في موسم الإمطار المنقضي، لكنها عطشى، ولهيب الصيف والبارود يبخّر ماء الأرض منها. ينتظر السوري في الأماكن الهادئة جريان الماء في الصنابير، مثل انتظاره أوكسجين الحياة، والماء لا يأتي إلا مع الكهرباء، فيما لو أتى، بينما حلب الظمآنة تشتري غالونات الماء من الصهاريج، مثلما تشتري الأمبيرات من "مولّدات الأزمة"، ولم يوفر المسلحون هذا السلاح في محاربة النظام، بحجة دعم الثورة والثوار، فعطّشوا حلب، وراحت تستغيث، بينما القذائف والبراميل تكتم صراخها، وتجار الماء يتجولون بهذا الكنز، من دون أن يرف لهم جفن.
يبست عروق السوري، وأظلمت نفسه وخوَت روحه، بينما الحرب تزداد ازهاراً، وتجارة الحرب تزداد ازدهاراً. فمن سيخترع سورية مرة أخرى؟
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024